إن حقيقة أن أكثرنا بمجرد أن يتصوّر وجود حشرة في فمه يشمئز، إلا أنه قريباً قد نتناول الخبز المصنوع من دقيق الصراصير، ونشرب البروتين المصنوع من مسحوق الجراد، ونتناول البيض المخفوق المصنوع من القشدة ودهون اليرقات، حيث ستمنحنا هذه الوجبة الحديد بنسبة 4 أضعاف، والبروتين والفيتامينات والمعادن الرئيسية بنسبة 3 أضعاف أكثر من الخبز، والعصائر، والبيض الذي تتناوله اليوم.
يعدُّ الأمن الغذائي العالمي هاجساً يشغلُ بال المنظماتِ العالمية المعنيةِ بشؤون الغذاء والتغذية والصحة، إذ تحولَ تأمين الغذاءِ بكمياتٍ كافيةٍ وقيمةٍ غذائيةٍ مقبولةٍ إلى مشكلةٍ تتزايد يوماً بعد يوم نتيجةً لأسبابٍ عديدة، نذكر منها-على سبيل العدّ لا الحصر- التزايد المضطردَ في عددِ سكان العالم –والذي سيصل إلى 9 ملياراتِ نسمةٍ بحلول العام 2050– رافعاً من الإحتياجِ الغذائي بمقدار 60% عمَّا هو عليه اليوم، الآثار المدمرة لتغير المناخ، والصيد الجائر، ونقص المياه، وإنخفاض إنتاجية الحقول… وقد طُرِحت عدّةُ بدائلَ لبلوغِ هذا الهدف، كأسماكِ المزارعِ والبروتينِ الجرثوميّ (البكتيريّ)، وكانت حلولاً جيدةً بالفعل، لكنّ جدواها الإقتصاديةَ وضرَرَها البيئيّ لا يجعلانها حلولاً مُثلى، فكان لا بدّ من حلٍّ ثوريّ بكلّ ما لهذه الكلمةِ من معنى.. وهو الحشرات!
إكتسبت عادة أكل الحشرات إهتمام وسائل الإعلام في السنوات الأخيرة، وأطلق عليها إسم Entomophagy، ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) عام 2013، فإن أكل الحشرات في الواقع ليس بدعة أو موضة طهوية حديثة، وإنما سبق للعديد من الدول والثقافات حول العالم تناول الحشرات منذ آلاف السنين، فقد كان اليونانيون والرومان يأكلون بإنتظام يرقات الخنفساء والزيز ويعتبرونها من الأطعمة الشهية، و في عصرنا الحالي، ما لا يقل عن ملياري شخص في جميع أنحاء العالم يتغذّون على الحشرات كل يوم(36 دولة أفريقية و23 دولة أمريكية و29 دولة آسيوية وحتى 11 دولة أوروبية ).
وتقول منظمة الأغذية والزراعة إن مجموعات الحشرات الأكثر شيوعاً وإستهلاكا في العالم هي الخنافس بنسبة (31٪)، وتليها اليرقات بنسبة (18٪)، والنحل والدبابير والنمل بنسبة (14٪)، والجنادب والجراد والصراصير بنسبة(13٪)، وعلى الرغم من أن العناكب والعقارب، ليست من ضمن الحشرات، إلا أنها تُعتبر أيضًا جزءاً من النظام الغذائي للعديد من السكان، و النمل الأبيض الملكي، على سبيل المثال، غني بالغذاء بحيث يتم إطعامه للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في أوغندا وزامبيا، ووفقاً لجامعة “Wageningen” في هولندا فقد تم تسجيل أكثر من 2100 حشرة صالحة للأكل في العالم.
تحتوي الحشرات على قيمة غذائية عالية ، وفيها جميع الأحماض الأمينية التسعة الأساسية، فضلًا عن كونها قليلة الدهون، وتحتوي على الألياف بينما تفتقر إليها اللحوم، وعلى فيتامين ب 12 الذي لا يوجد بطبيعة الحال في الأطعمة ذات الأصل النباتي، كما أنها تحوي مواد مغذية للجسم، من أهمها البروتين، والذي قد يقارب أحياناً مقدار البروتين في اللحم، ففي حين أن 100 غراماً من اللحم البقري يحوي من 19 إلى 26 غراماً من البروتين، فإن 100 غراماً من الديدان الطحلبية قد يصل البروتين فيها إلى 25 جراماً، ويعتمد مقدار البروتين في الحشرات على الأطعمة التي يتم تغذيتها عليها.
كما تحوي الحشرات على العديد من المعادن مثل الحديد والزنك والكالسيوم والماغنيسيوم، وكمية من الفيتامينات أكبر من تلك التي يحويها اللحم البقري بإستثناء فيتامين بـ12، كما تحوي بعض الحشرات مثل صرصار الحقل على مواد مضادة للالتهابات.
فضلا عن كل ذلك، فإن تناول الحشرات كطعام أو تربيتها وتناولها أفضل للبيئة، عكس تربية الحيوانات التي ينتج عنها العديد من المواد الضارة بالبيئة. فمثلا يترتب على إنتاج كيلو غراماً من اللحم البقري حوالي 2850 غراماً من الغازات الضارة، ويترتب عن إنتاج نفس القدر من الجراد مثلاً حوالي غرام ونصف فقط من الغازات الضارة، كما أن تربية الحشرات لا تتطلب الكثير من التغذية، فإنتاج كيلو غرام من اللحم البقري يتطلب حوالي 10 كيلوغرامات من الغذاء، في حين أن إنتاج كيلوغراماً من الجراد يتطلب 1.7 كيلوغراماً من الغذاء فقط، كما أن تربية المواشي والحيوانات تحتاج إلى مساحات واسعة لكي تعيش فيها، في حين أن الحشرات تتطلب أقل من عُشر تلك المساحة لإنتاج نفس الكمية من الطعام. وهذا بالإضافة إلى أنه يمكن تربيتها في أي مكان كان، حتى في أواسط المدن الكبيرة، ووفقا لمنظمة الفاو، تحتاج الصراصير إلى علف أقل بست مرات من الأبقار، وبأربع مرات من الأغنام، وأقل بمرتين من الخنازير.
بالإضافة الى نقطة إضافية يضيفونها لقائمة الميزات خصوصاً مع أزمة كورونا الحالية، وهو أنه وبسبب أن الحيوانات من الثدييات، وتتشابه مع تكوين الإنسان، فإن هذا يزيد من إحتمالية بدء وباء في الحيوانات وإنتقاله للإنسان، كما يُعتقد أنه تم في وباء كورونا، وكما كان الحال مع العديد من الأوبئة الأخرى، في حين أن ذلك إحتماليته ضعيفة للغاية في حال الحشرات.
ولهذه الأسباب كلها، يمكن للحشرات المستزرعة أن تساعد في معالجة مشكلتين من أكبر مشاكل العالم في آن واحد: انعدام الأمن الغذائي وأزمة المناخ، وهذا ما يشجع داعمي الحشرات كغذاء وإعتبارها ثورة الغذاء المستدام المقبلة.
والحقيقة أننا بالفعل نتناول الحشرات! بمعدل من نصف كيلو إلى كيلو سنوياً، وبدون أن ندرك ذلك! حيث أن العديد من الأطعمة التي نتناولها قد تحوي حشرات أو أجزاء من الحشرات، أو بيوض للحشرات، دخلت في تصنيعها، وذلك كله معترف به ومقر من هيئة الغذاء والدواء الأمريكية التي سمحت بما يسمونه “العيوب الغذائية”، ولذلك أصدرت لوائح تتعلق بأجزاء الحشرات المسموح بها في المواد الغذائية( 30 جزءاً أو أكثر من الحشرات وبعض شعر القوارض في كل قطعة من الشوكولاتة، وحوالي اثنين من الديدان في علبة معجون الطماطم أو صلصة البيتزا، وما يصل إلى 450 جزءاً من الحشرات و9 شعرات من القوارض في كل علبة من السباغيتي تزن 16 أونصة)، لذلك فإننا جميعًا نأكل الحشرات شئنا أم أبينا .
وعلى سبيل المثال فإن الشركات التي تستخدم اللون القرمزي تستخلصه من حشرة تسمى البق القرمزي، وهذه الحشرة تتغذى على نسغ نبات الصبار، وحتى تدافع عن نفسها تقوم بإفراز مادة كريهة الرائحة حمراء اللون ساطعة لتجعل المفترسات تتجنب تناولها، وفي الماضي كان شعب الأزتيك يستخدم تلك الحشرة لصنع أصباغ الملابس، واليوم يتم إستخدام مستخلص حشرة البق القرمزي كملون طبيعي في العديد من الأطعمة والمشروبات، وينتج مزارعو بيرو وجزر الكناري معظم إمدادات العالم من العالم من البق القرمزي، وهي صناعة كبيرة تدعم العمال في المناطق الفقيرة .
وفي خبر قد يكون مقززا للبعض، فإنه مع مطلع عام 2023 أقر الإتحاد الأوروبي قوانين جديدة تسمح بإستخدام الصراصير المنزلية ويرقات الدودة القشرية، كغذاء لشعوب دول الإتحاد، وبدأ تطبيق هذه اللوائح الجديدة منذ يناير الماضي، وتشمل إستخدام الصراصير المجمدة أو المجففة أو في صورة مسحوق، كما حصلت يرقات الدودة القشرية، و ديدان المنازل الصغيرة ( Alphitobius diaperinus )، ويرقات الجراد أيضًا على الضوء الأخضر وفقًا لوكالة الأنباء الأوروبية.
وكان الإتحاد الأوروبي قد وافق على قواعد مماثلة بشأن اعتبار الجراد المهاجر و يرقات الدودة الصفراء وحشرة “الغبشة”، والديدان الطحلبية، وصرصار الحقل، وصرصار المناطق الإستوائية والجراد الصحراوي، ونحل العسل الغربي، وذبابة الجندي الأسود من أصناف الطعام للبشر، ودخلت القوانين التي تسمح باستخدام هذه اللوائح حيز التنفيذ، وباتت العديد من المنتجات التي تحوي على مكونات مصدرها من الحشرات تباع في الأسواق تضاف إلى الخبز والبسكويت والمقرمشات والمعكرونة و الصلصات، وغيرها، على أن يحمل غلاف الأطعمة التي تحتوي على الحشرات في الإتحاد الأوروبي، على إشارة إلى ذلك، تشمل اسم نوع الحشرة.
وإعتبرت هيئة سلامة الأغذية الأوروبية (EFSA) أن الطعام المصنوع من مسحوق صراصير الليل، آمن في استخدامات. مثل دقيق الخبز واللفائف متعددة الحبوب والبسكويت وأعواد الخبز و ألواح الحبوب والبسكويت و المكرونة والبيتزا والبطاطس المقلية، ومن المتوقع أن تصل قيمة سوق الحشرات الصالحة للأكل إلى نحو 4.63 مليار دولار (3.36 مليار جنيه إسترليني)، وقد بدأت شركات أوروبية بالإستثمار في الحشرات الصالحة للأكل بعد موافقة الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية على إعتماد الحشرات كغذاء للبشر، ووفقاً لتقرير صادر عن “Global Market Insights”، فقد بلغ سوق الحشرات الصالحة للأكل في الولايات المتحدة 55 مليون دولار في عام 2017، ومن المتوقع أن يرتفع إلى حوالي 80 مليون دولار بحلول عام 2024.
وفي الثقافة الإسلامية، عكس العديد من الثقافات التي إعتمدت تناول الحشرات منذ قديم الأزل، لجأ المسلمون لإطعامها إلى الحيوانات المحلل أكلها من أجل الإستفادة من عناصرها الغنية، وذلك لأنَّ الحَشَرات مِما تَستَخبِثُه العَرَب وتَستَقذِرُه، و لقوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157]. وهو ما أكدته هيئة الغذاء والدواء بالسعودية، بمنعها دخول المنتجات الغذائية التي تحتوي على “مسحوق الحشرات” لأسواقها، حيث صرح المدير التنفيذي للرصد وتقييم المخاطر بالهيئة، مشعل المطيري: “لن نسمح بدخول بدائل اللحوم إلا من المصادر النباتية الحلال، والمطابقة للمواصفات”، وفي تبريرها لحظر دخول المنتجات الغذائية التي تحتوي على مكونات من الحشرات، قالت قطر إن الحظر تم لكون تلك المنتجات لا تستجيب لمعايير الطعام “الحلال”، كما تنص عليها تعاليم الدين الإسلامي.