فاطمة بنت بركة، فنانة طرب تنزانية مسلمة عرفت بإسم “بي كيدودي” الذي يعني باللغة السواحيلية “الجدّة الصغيرة”، تعتبر من أهم أيقونات الطرب والغناء بالقارّة السمراء إفريقيا، لقبت القرنفلة السوداء….. كوكب زنجبار-تنزانيا….إمبراطورة شرق أفريقيا….ملكة الطرب. لم يعرفها العالم إلا في السنوات الأخيرة من حياتها أو بعد وفاتها سنة 2013، حصلت على جوائز كثيرة أشهرها جائزة “ووميكس العالمية” سنة 2005 التي نصبتها “وسيطاً ثقافياً ومستشاراً للأجيال الشابة ورمزاً للموسيقى التحررية في العالم”، كما أنها حصلت على وسام إستحقاق الفنون والرياضة من وطنها تنزانيا سنة 2012، بالإضافة الى جوائز من عدة دول أفريقية مثل جنوب أفريقيا و موزمبيق و كينيا و أوغندا و غيرهم.
“بي كيدودي” زنجبارية المولد، نشأت في عائلة فقيرة كان معيلها يشتغل بائع جوز هند في زنجبار أثناء الاحتلال الإنجليزي، أحبّت الغناء منذ طفولتها وشغفت به، ومارسته منذ سنّ العاشرة على الموانئ التي يمرّ بها العرب الزائرون لجزيرتها أثناء رحلات التجارة، وعرفت بغناء طابع الطرب السواحيلي، لكن الصبيّة اليافعة لم تظفر بالاهتمام آنذاك فقد كان الجميع يتجنبها ولا يجلس بجانبها لملابسها الرثة التي تظهرها كمتشردة «بدأت الغناء على مركب شراعي في سن العاشرة، لم يعلّمني أحد ذلك، فقط موهبتي هي ما كانت تغذيني طوال الوقت، كان العرب يأتون بمراكبهم الفارهة ومقتنياتهم الذهبية، ويرسون في الميناء للإسترخاء، يحبون قرع الطبول، كنا نستقبلهم بأغنية Alaminadora، في هذه الفترة لم يكن يرغب أحد في أن يجلس بجواري، إذ كانت ملابسي مهترئة، فقد كنت بمثابة متشردة شاطىء»، لا تتذكر فنانتنا نشأتها الأولى كثيراً في أغلب التصريحات التي أدلت بها، لكنّها تتذكر عشقها للغناء الذي كان بمثابة الكوجيتو: “أنا أغنّي إذا أنا موجودة”.
تزوجت، لكنها لم تستطع الإنجاب، وكان مصيرها الطلاق. تكررت التجربة.. وبعد ذلك، إنتقلت للعيش في بيتٍ طينيٍّ صغير في شانغاني بزنجبار، وأخذت في الذهاب إلى نوادٍ صغيرةٍ خاصة بالطرب، تُديرها النساء غالباً، لتبدأ هناك بمزاولة “الأنيانغو”، وهو طقس خاص بالنساء السواحيليات، تأثر فنها بأيقونة الطرب في بلادها «ستي بنت سعد»، التي كانت أول امرأة في شرق إفريقيا تسجل ألبوماً غنائياً، ومن رائدات الغناء على الطريقة السواحلية، بعد أن كان سابقوها يفضلون العربية.
اتَّسَمَت المسيرة الغنائية للفنانة “بنت بركة” بالهدوء رغم ثورتها لفترةٍ إستمرت حوالي نصف قرن، لكن في العام 1980 أصبحت هناك آفاق موسيقية أخرى، حيث غنّت صحبة فرقة “صاحب الأهري”، ليكون ذلك خطوةً تمهيديةً لإنضمامها إلى الفرقة الزنجبارية “النجوم المتلألئة” (Twinkling Stars)، لتصبح مطربتهم الرئيسية، وتشارك معهم في جولات في ألمانيا، واسكندينافيا، واليابان، والخليج، عُرفت بي كيدودي بعفويتها وروحها الخفيفة الظل حتى أنها كانت تغني حافية القدم حتى في أرقى المسارح الأوربية ، ولما سئلت عن السبب أجابت أن ذلك مريح للقدمين.
في العام 1990، إنضمت إلى “شيكامو جاز” كعضوة موسمية، وهي فرقة تتكون من موسيقيين كبار السن من دار السلام تم دعْمُهم من المنظمة البريطانية هيلب إيدج إنترناشيونال (Help Age International)، يقدمون موسيقى تعتمد على خبرتهم في مزج الطرب بالجاز، وعلى الرغم من زيارتها معظم الدول الأوروبية، وأبرزها بولندا، وإنجلترا، وإيطاليا، وألمانيا، والسويد، كان العنصر الوحيد الذي لا تعرفه هو الإنجليزية، وفي جولةٍ في بريطانيا سنة 1995، كانت كل الأنظار معلَّقَةً على “بي كيدودي”، التي بصوتها المخملي عبَّرَت عن أحاسيس كانت حبيسةً طوال سنوات عمرها مثل أغنية ” جازاميني ” ،التي غنى مقدمتها الفنان الإماراتي حسين، و التي إنتقدت فيها الإحتلال البريطاني و الدمار الذي ألحقه بأفريقيا.
لم تجد المطربة الإفريقية كوكب القارة السمراء التنزانية “بي كيدودي” الدعم المادي في صباها و كهولتها كي تقوم بتسجيل ألبومات و لكن شهرتها تخطت حدود القارة الأفريقية بعد بلوغها سن التسعين…كانت «بنك الذاكرة الموسيقية الإفريقية» تغني جميع ألوان الموسيقى، من العربية إلى التراث الزنجباري التقليدي، إلى الجاز التنزاني، بالقدر نفسه من الإبداع في كل مرة، و ظلت تغني حتى عامها الـ13 بعد المئة، ورغم كل تلك العقود التي تظهر في تجاعيد وجهها إلا أن صوتها زاد طلاوة، وكأن الزمن يصقله كتحفة فنية، أو مثل الخمر العتيقة كلما إزدادت قِدماً ازدادت حُسناً، بل هل يصدق أحد أنها كانت تقرع الطبول وتدخن السجائر حتى نهاية عمرها، ومع ذلك كانت تطلق العنان لرئتيها لتشدو كشابة في منتصف عمرها «الطرب مختلف عن غيره، إنه بمثابة إلقاء روحكم في السماء، المتفرجون يجلسون على الكراسي، والفرقة الموسيقية تقرع الطبول وتعزف على الناي والعود والآلات الأخرى، لكن هناك مغنياً واحداً فقط، كل ما يحتاجه الغناء هو النَفَس وراحة العقل، فقط سرْ مع إيقاع الموسيقيين، ولا تنسخ شخصاً آخر»، هكذا لخصت أقدم مغنية إفريقية فلسفة مسيرتها الفنية التي أطربت فيها الآذان في المراكب والمسارح وأزقة الشوارع.
لم تمارس الفنانة “بي كيدودي” الغناء من أجل الشهرة وكسب المال والسفر بقدر ما كان طقساً روحياً تمارسه بكل محبّة وتفانٍ، أثناء إجابتها عن سرّ إتقانها للعزف على الطبول والغناء، أجابت بكل تواضع: “لا أغنّي من الورقة.. أنا أغني من قلبي”، فحمل صوتها سحر جزيرة زنجبار البعيدة الذي يحل كلما أطلقت هذه الفنانة حنجرتها بالغناء، سحر بسيط ولكنّه عميق كسحر قدميها العاريتين على المسرح.
غنت “بي كيدودي” باللغة العربية، ويعود تمكنها من اللغة إلى علاقة زنجبار بالثقافة العربية منذ قرون خلت، حيث كانت هذه الجزيرة خاضعة إلى السيطرة العُمانية لسنوات طويلة حتى سنة 1890، فغنت لأشهر الفنانين العرب وأشهرهم على الإطلاق موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب (أشهر ما غنت له قصيدة أيها الراقدون تحت التراب) والسيدة كوكب الشرق أم كلثوم إلى درجة أنها قد لقبت بـ”أم كلثوم إفريقيا”، كما كانت تترجم القصائد العربية إلى لغتها الأصلية السواحيلية، وطافت أغلب مناطق شرق إفريقيا مع فرقتها الطربية، والمدن الساحلية والداخلية والغرب، وصولاً إلى بحيرتي فيكتوريا وتنجانيقا، قبل أن تعود إلى وطنها الأم بعد سنوات.
إجتماعيا عرف عنها سخائها الكبير على الفقراء وتبنيها للمواهب الشابة والأيتام ، كما قامت بالمشاركة في تأهيل العديد من الصبايا عبر السنين إلى أن إكتسبت لقبها الذي صار علامتها المسجلة، وكانت أيضاً تقوم بصُنْع واستخدام “الوانجا”، وهو مستحضَرٌ تجميليٌّ أسود، يُضاف إلى الحنّاء، تُزَيَّن به أيادي وأرجل الفتيات، كما كانت خبيرةً في طب الأعشاب حيث كانت تُحَضِّر الأدوية الطبيعية بناءً على طلب الأطباء في المستشفى المحلّي،فكانت الطوابير أمام منزلها روتينا دائما.
كانت طيّبة إلى درجة إستغلالها، وهو الأمر الذي جعل إبن شقيقها يحتجزها في المنزل خوفاً عليها بعد تلف رئتيها جراء التدخين المفرط،و لحمايتها من إستغلال الموسيقيين المتعاونين معها، مشدداً على منعها من أداء أي عرض مقبل:”لقد وجدتها في حالة مزرية، كمن فقدوا عقولهم، أخذتها بعيداً عن كل شيء، الأشعة كانت واضحة، رئتاها التالفتان تمنعانها من الغناء مجدداً، بالنسبة لها إن الصراع الآن من أجل البقاء فقط” كان هذا سنة 2012 أي بعد أكثر من قرن من الغناء والإنطلاق في رحاب الفن، الذي خاضته ببساطة الإنسان الإفريقي دون أن تطمع في جمع المال، وإن جمعته فهي تتصدّق به على المحتاجين والفقراء الذين يطرقون باب بيتها، كانت هناك حقيقة واضحة في قصة «بنت بركة» هي أن الموسيقى شريان حياتها، وهذا ما أكدت عليه في آخر لقاءاتها، «إذا توقفت عن الغناء، فكيف تتوقعون مني البقاء»، بعد أيام من هذا التصريح توفيت، وتحديداً يوم 17 أبريل عام 2013، و كانت قد أوصت بالتبرع بثروتها إلي الحكومة التنزانية كي تكمل المشروعات الخيرية التي قد كانت تنفق عليها هي بنفسها مثل دور رعاية الأيتام و حفر الآبار و بناء المساكن لفقراء بلدتها، وتمّ تشييع جثتها في جنازة مهيبة حضرها عشاقها ورئيس بلادها الذي شارك في مراسم تشييعها إلى مثواها الأخير.
بعد وفاتها تم تصوير فيلم وثائقي بريطاني عن حياتها بعنوان ” As Old As My Tongue” أو ” عجوز كما لساني – الأسطورة و حياة بي كدودا ”، وحصد جوائز اكاديمية باتلانتا و ميامي -الولايات المتحدة و فرنسا و موزمبيق و نيجيريا و جمهورية التشيك..و تستمر أموال بي كدودا في مساعدة الفقراء و النساء حتى بعد وفاتها حيث إن 10% من عائد الفيلم يذهب لدعم دارسات الموسيقى ببلدها في جزيرة زنجبار.
توفيت الجدّة الصغيرة لكنّها تركت تراثاً غنائياً كبيراً يحق لأهلها في جزر زنجبار الفخر به.