تيريزا المغرب…بورتريه عن عائشة الشنا أيقونة العمل الإنساني بالمغرب

وادنون تيفي7 أكتوبر 2022
تيريزا المغرب…بورتريه عن عائشة الشنا أيقونة العمل الإنساني بالمغرب
تحرير : محجوبة عدي

‌”تيريزا المغرب”..”ماما عيشة”..”أم الأمهات العازبات”، و”أيقونة العمل الإنساني بالمغرب”…كلها مسميات لإمرأة واحدة هي”عائشة الشنا”،كما صار أصدقاؤها والمقربون منها ينادونها ب”الحاجة العزيزة” منذ أدائها مناسك الحج، في حين كان ينعتها خصومها دعاة الكراهية والحقد بالملحدة، ويتهمونها عن باطل بـ”المدافعة عن الرذيلة”. ولكنها تحدت معارضيها وآمنت رغم الصعوبات بمشروعية مبدئها الجريء فكانت تعلق عن إيمانها الداخلي الشخصي بقولها: “أنا مسلمة قلبا وعلمانية عقلا”، وهو ما جعلها تنال تقديرا واحتراما كبيريْن داخل المغرب وخارجه.
‌ولدت عائشة الشنا بالدار البيضاء 14 غشت 1941. توفي والدها بعد أربع سنوات من ولادتها. إحساسها باليُتم عزّز لديها الشعور بوقع التضامن الأسري، فأثبتت أن فاقد الشيء هو الأجدر بالبذل والعطاء. انتقلت للعيش في مراكش ثم عادت للدار البيضاء عام 1953، وأكملت دراستها الثانوية في مؤسسة “فوش إي جوفر”، و في عام 1959 بدأت أولى خطواتها في العمل التطوعي والخيري بتأسيسها جمعية حماية الطفولة والعصبة المغربية لمحاربة السل. وفي سنة 1960 شرعت في التدريب على مهنة التمريض بالمدرسة الوطنية للتمريض، وانخرطت في العمل الجمعوي بين 1962 و1980 بصفتها مساعدة اجتماعية،في الرابعة والعشرين من عمرها، كانت الشنّا أول ناشطة اجتماعية في المغرب تقترح على الحكومة المغربية الاهتمام بـ “التخطيط العائلي”. وبدأت على إثر ذلك التعامل مع حالات اجتماعية على أرض الواقع، كما التحقت سنة 1972 بالاتحاد النسائي العام في الدار البيضاء،حيث ستخوض الشنا تجربة جديدة هي إنتاج البرامج التلفزيونية والإذاعية المختصة بصحة المرأة، ومن ضمنها أول عمل تلفزيوني يدور حول التعليم الصحي،قبل أن تعيش نقلة نوعية سنة 1981 حين صدمها مشهد فتاة قروية صغيرة السن تدخل مكتب مساعدة اجتماعية في وزارة الصحة، تحمل بين ذراعيها رضيعاً كانت ترغب في التخلي عنه، كونه وُلد نتيجة علاقة غير شرعية، ورفض الوالد الاعتراف به. وكان تخلي الأم العازبة عن رضيعها لوزارة الصحة أمراً شائعاً في المغرب آنذاك. وبينما كانت تستعد لأن تبصم على ورقة التخلي عن رضيعها،كان طفلها يرضع فسحبت ثديها من فمه بعنف ما أدى إلى تطاير الحليب على وجهه وعندها شرع بالبكاء. لم تنم الشنا ليلتها، وأقسمت بأن تناضل لوضع حد لهذا الظلم الاجتماعي ورغم قساوة المشهد إلا أنها تفتخر بعد طول هذه السنوات بالرضيع الذي جرى احتضانه إذ غدا طبيبا اليوم .وبدأت الشنا نضالها وهي تعي تماما أنها تَجُرُّ على نفسها الكثير من الانتقادات والمخاطر بكسرها “طابو” من “الطابوهات” المجتمعية، وتشريح عقلية واسعة من شرائح المجتمع الرافض مسبقا مناقشة فكرة وقوع حملٍ خارج إطاره الشرعي.
‌في البادئ تلقنت عائشة الشنا مبادئ العمل الاجتماعي على يد المساعدة الاجتماعية الفرنسية “جان ماري تانتوريي” لمدة أربعة سنوات مستفيدة من تجربة ميدانية مفعمة بالوقائع المثيرة.وفي سعيها إلى الوفاء بقسمها، أخرجت الشنا في نونبر 1985 إلى حيز الوجود “جمعية التضامن النسوي” (Association Solidarité Féminine‏)منظمة غير ربحية تهتم بمساعدة الأمهات العازبات على اكتساب خبرات العمل من خلال مقاربةٍ تشاركيَّة اختارتها مؤسِّستها، بديلاً لما جرت عليه العادة لتعنى بالأمهات العازبات، وتقدم لهن المساعدة القانونية والاقتصادية والنفسية، بالإضافة إلى تحسيسهن بخطورة العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج.

‌إهتمت الجمعية منذ تأسيسها بمساعدة الأمهات العازبات على اكتساب مهارات مختلفة لتأمين مستقبل أفضل لهن ولأطفالهن،فكان هدفَها الرَّئيسي منع التَّخلي عن الأطفال من خلال تأهيل أمهاتهم العازبات (اقتصادياً واجتماعياً).فوضعت الجمعية إستراتيجية في يناير 2003 تلبّي خمسة أهداف محددة: (التواصل، المرافقة، التكامل، التدريب، التطوير.) ولتحقيق هذه الأهداف، أنشأت الجمعية «مركز دعم الأمهات المحتاجات» (CSMD)، وحضانات في كل موقع من مواقع التدريب الثلاثة التي تتوفر عليها. ويتمحور التدريب على الأشغال المدرة للدخل التي تمَّ توسيعها في العقد الأخير (المطاعم، محلات الحلويات، خدمة تقديم الطعام، ورشة الخياطة، الحمام، إدارة الكافتيريا، أكشاك البيع). كما تعمل على إعادة بناء ثقة الأمهات بأنفسهن، والسعي وراء تغيير واقعهن نحو الأفضل، وهو ما عبرت عنه في أحد تصريحاتها بقولها “تدخل الأم منهن إلى الجمعية وهي مطأطأة الرأس، وتخرج منها بهامة مرفوعة وهي حاملة ابنها بيديها، ومتعلّمة حِرفة، والأهم من ذلك تعلمت أن تقول بكل إباء أنا أم”، فالأمَّهات العازبات اللواتي يلجأن لخدمات هذه الجمعيَّة، يتمُّ إدماجهن مباشرةً في سوق العمل ودورة الإنتاج، للقطع مع مخاطر استغلالهنَّ جنسياً في الدعارة أو شبكات الرقيق وتهريب المخدرات، إذ يتمُّ تدريبهن في مطعم الجمعية على الطَّبخ وتقديم الوجبات، وفي مخبزة الجمعية على صنع الحلويات، وفي حمَّامِ الجمعية؛ ما يوفر لهنَ قوتَ عيش شريفاً وخدمات في عين المكانِ من مأكل ومشرب ونظافة.
‌في عام 2004، افتتحت مركزاً للياقة البدنية بالقرب من مركز الجمعية. ويعتمد دخلها أيضاً على التبرعات التي قدمها مانحون أسخياء أو على الأموال التي جلبتها الجوائز المتعددة التي فازت بها الجمعية. مُذَّاكَ صارَ مستحيلاً عزل سيرة عائشة الشَّنَّا عن مسار ومنجَزات هذه الجمعيَّةِ؛ وعكساً بعكس، لا يمكن ذكر هذه الجمعيَّة من دون أن يتبادر إلى ذهننا اسمُ الراحلة.بالإضافة إلى أن الجمعية عملت على لم شمل الكثير من الأسر، ونالت اعتراف العديد من الرجال بأبنائهم وسمحت حتى بتزوج بعضهم بالأمهات، ومنهم من يعيش حياة طبيعية كباقي المغاربة. وبفضل عائشة الشنا، تمكن العديد من الأطفال الذين عاشوا طفولة صعبة، وعاشوا شبابهم في فقر، من الصعود في صفوف المجتمع، ليصبحوا رجال أعمال ومسؤولين كباراً وفنانين موهوبين. علماً أنّها وثّقت مأساة الأمهات العازبات وأطفالهنَّ، والخادمات الصَّغيرات والأطفال المتخلَّى عنهم في كتاب شهادات حمل عنوان Miseria (بُؤْسٌ)، صدر عام 1996، عن «منشورات الفنك» في الدار البيضاء،تحكي فيه قصصاً مؤثرة لعشرات الضحايا: “خادمات صغيرات السن وأطفال الشوارع أهملهم آباؤهم، وولوا إلى غير رجعة.. تتشابه الحكايات وتتغير فقط الأماكن والازمنة.

نادت عائشة الشنا دائما بضرورة إدماج التربية الجنسية في المناهج التعليمية،في إيمان منها أن الحاجة للتثقيف الجنسي تكمن في إدراك الخطأ قبل وقوعه، ناهيك على قدرته على مواجهة بعض الأمراض الاجتماعية نتيجة لعدم الوعي كالاغتصاب، والأمراض المنقولة جنسيا، هذا التوجه فتح عليها أبواب النار من عدة جبهات، لكنها تؤمن أن عملها حاجة إنسانية تباركها جميع الشرائع..

‌و بحسِّها الاجتماعي القوي، اعتمدت عائشة الشَّنَّا، منذ بدايات التأسيس مقاربةً لامركزيَّة، تخدم أساساً ضحايا الهامش، أو ما يسمَّى، منذ أيام السياسة الاستعماريّة «المغرب غير النَّافع». مغرب الأطراف والمناطق النائيَّة المعوِزة جداً، وفي سنة 1988، افتتح أول مركز للجمعية أبوابه في تيزي وسلي، وهي قرية أمازيغية شمال المغرب، تنتمي إلى إقليم تازة، شرقي مدينة فاس، وتضم بلدة تيزي وسلي حوالي عشرة آلاف نسمة.
‌رئيسة جمعية التضامن النسوي، ناضلت لعقود للدفاع عن حق الأم العازبة في الاحتفاظ بابنها، عملها في هذا المجال فترة الثمانينيات اعتُبر ثورة ضد التقاليد، واتُّهِمت بإدخال عصرنة سلبية وسط المجتمع المغربي المحافظ، كما أدان بعض الأئمة في المساجد عملَها، إذ تقول في هذا الجانب “سمعت الكثير من الانتقادات، لكن ما يحزُّ في النفس أن هذا الكلام صادر عن أناس مرموقين ومثقفين يروْن ما أقوم به تشجيعا على الفساد”، وأضافت “تلقيت الكثير من التهديدات؛ منها أن رجلا قام باغتصاب ابنة زوجته التي لا تتعدى العامين ونصف، فحُكم عليه بالسجن، أقسم وهو بداخله أنه سيطعنني بسكين في أحشائي ريث خروجه منه”، لكن كل هذه التهديدات لم تحل دون إيمانها بقضيتها، فالإنسان في هذه الحياة مُسخَّر للقيام برسالة ما.

‌عندما هدد متشددون الفاعلة الجمعوية عائشة الشنا، بالتصفية الجسدية، قررت التوقف عن دعم ومساندة الأمهات العازبات بالمغرب، قبل أن تطرق بابها فاعلات حقوقيات رفضن رضوخها لضغط المتشددين الذين توعدوها ونعتوها بالكفر وتشجيع الرذيلة. وفي العام ذاته، وتحديدا سنة 2000، جاء الرد من العاهل المغربي الملك محمد السادس، الذي منحها وساما ومساعدة مالية مليون درهم، ودعا السلطات إلى تسهيل مساطر العمل الاجتماعي حين يتعلق الأمر، بمشاريع مدرة للدخل حين يتعلق الأمر بمشاريع لفائدة الفئات الهشة، من جهتها، قالت الشنا إن هذا التوشيح هو اعتراف دولي آخر بـ”العمل اليومي” لجمعية “التضامن النسوي” وبالقيم الإنسانية التي ناضلت من أجلها لأزيد من 50 عاما.
‌صرّحت عائشة الشنا في مقابلة أجريت معها قائلة: “فخورة أنني ألقيت الضوء على هذا الظاهرة التي حظيت بالاعتبار من أعلى سلطة في المغرب، ومن رجال القانون، هذا بالنسبة لي ثورة حقيقية، وأصبحنا بمثابة قدوة لكثير من البلدان العربية، التي لا تزال تعد فيها جرائم الشرف عملا بطوليا يستدعي الفخر.”

‌اعترافا بعملها الجمعوي لأكثر من نصف قرن، وعرفانا بجميل صنيعها الإنساني فتحت أمامها أبواب الاعتراف الوطني والدولي، فحازت خلال مسيرتها التطوعية على العديد من الجوائز، من أبرزها جائزة “أوبيس” للأعمال الإنسانية الأكثر تميزاً سنة 2009(وهي أول إمرأة عربية تحظى بها)، والبالغة قيمتها مليون دولار بمينيابوليس (الولايات المتحدة)والتي قالت عنها الشنا إنها ستكون ضماناً لاستمرارية مؤسستها بعد وفاتها، وجائزة إليزابيت نوركال، نادي النساء العالمي بفرانكفورت سنة 2005، وجائزة حقوق الإنسان من الجمهورية الفرنسية عام 1995، كما تقلّدت العديد من الأوسمة، منها وسام الشرف للملك محمد السادس عام 2000، ووسام جوقة الشرف من درجة فارس، من قبل الجمهورية الفرنسية عام 2013 حيث قال سفير فرنسا بالمغرب، شارل فرييس، في كلمة بالمناسبة، مخاطبا عائشة الشنا، إن هذا التوشيح، الذي ينضاف إلى سلسلة التكريمات التي حصلت عليها في المغرب عبر العالم، يعتبر “اعترافا يتيح لك أن تصبحي المتحدثة باسم ما تسمونه من لا صوت لهم”
‌في يوم الاحد 25 شتنبر 2022،عن عمر ناهز 82 عاماً، إثر أزمة صحية ألزمتها الفراش،وبمستشفى الشيخ زايد تُوفيت الناشطة الاجتماعية المغربية التي نذرت حياتها للدفاع وبشراسة عن” الأمهات العازبات” في المغرب واللائي وجدن فيها على امتداد ما يقارب أربعة عقود الحضن الدافئ الذي يحتضنهن ويحن عليهن في مواجهة النبذ ورفض الأسر والمجتمع لهن. وتحوّلت إلى رمز لكفاح النساء من أجل النساء في المملكة وفي العالم العربي .
‌تحديات كبرى تنتظر الدولة والمجتمع في ملف “الأمهات العازبات” بالمغرب، فبرحيل عائشة الشنا، أشهر متبنية للملف عن دنيا الناس، يكون النسيج الحقوقي أمام رهان تعويض اسم سخر إمكانيات رمزية ومالية وقانونية مهمة لإخراج الملف من دائرة الطابوهات.
‌فسلاماً لروح عائشة الشّنَّا الَّتي اشتغلتْ في ميدان ملغوم، في عالمنا العربي الإسلاميِّ،في حين أنَّها كانت تؤمِّنُ للنساء والأطفال ملاذاً يقيهنَّ من أعرق مهنة مستعبِدة في تاريخ البشرية، منذ بداياتها وفي مآلاته‌.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.