الحمادة والبطانة ليست أرض خلاء… هي الصحراء النابضة بوجودنا والصادحة بآثار استقرارنا (3)

وادنون تيفي22 سبتمبر 2022
الحمادة والبطانة ليست أرض خلاء… هي الصحراء النابضة بوجودنا والصادحة بآثار استقرارنا (3)
وادنون تيفي
إن الانتشار الواسع للمجالات الزراعية بالبطانة والحمادة والتي أشرنا إلى بعضها بعدد من المواضع والتي كانت تزاول بها الساكنة القبلية للمجال بعض الأنشطة الاقتصادية تثبت الملكية الجماعية للأرض والتصرف فيها، وليست أرض خلاء كما يريد البعض التسويق لذلك لجهله بتاريخ هذا المجال وعدم الدراية بأحواله، فأهل هذه البوادي لهم تقاليدهم الزراعية والرعوية التي ورثوها عن أجدادهم، فهم أهل نجعة وظعن وفي الآن نفسه مزارعون وأشباه مزارعين، فآثارهم ومآثر عمارتهم ما زالت شواهدها قائمة ومعلومة عند العامة والخاصة، إلا أن حرب الصحراء قد جعلت هذا المجال ملتهبا اكتوت –كما اكتوى أهلها- بنارها الحارقة طيلة سنوات مضت مما حال دون أن تشهد أي تنمية أو تطور واضح المعالم يعود بالنفع على المجال والإنسان بهذه الربوع من الصحراء التي كانت في سابق عهودها ذات دينامية وحركية لا يستهان بحجم وقعها على مختلف جوانب الحياة بفعل تواجد أحد أقدم وأهم محاور تجارة القوافل الصحراوية (طريق اللمتوني واللميتيني) الذي جعل منها المنفذ الأساس والبوابة الرئيسة للانفتاح على أفريقيا قبل أن يظهر بديلا عنها بالمحور الغربي للصحراء معبر الگرگارات…
وارتباطا بنمط عيش وحياة سكان المنطقة المزاوج بين الرعي (النجعة) والزراعة (الحراثة) وتتبع بعض مظاهرهما وتجلياتهما بالمجال الدّال على حجم تمركزها وطبيعة استقرارها وتعميرها واستيطانها لهذه الربوع، فإن ذلك قد جعل بعضًا من الباحثين والضباط الأجانب (الإسبان والفرنسيين أساسا) يصفونهم بـ “أنصاف الرُّحل” حينًا، أو بـ “الرُّحل المزارعين” أحيانا. وقد كانت لهم تقاليد عجيبة أوجبتها طبيعة تضاريس المجال “الصَّعبة والسَّهلة” فيما يتعلَّقُ بالعمارة الفلاحية (الزراعية) منها؛ طرق استصلاح الأراضي (تَطْوَاعْ اَلتْرَابْ) واقتلاع الحجارة والأحراش المتواجدة بها لتكون مُؤَهَّلة للحرث كفَدَادِين (اَمْعَادَرْ) وشواهدها ما زالت ظاهرة وبيِّنَة في عدد من مناحيه، وبناء بعض المصفوفات من الحجارة المتراصّة الشبيهة بالسدود لـ “كَسْرِ” قوة تيار السيل أو مجرى الماء أو توجيهه إلى تلك الحقول على نحو يستفيد من مجرى الأنهار والوديان من جهة ولا يَضُرُّ بمعالم شكلها وأحوالها من جهة ثانية، فضلا عن وجود عمارة نظام “اَلْخَطَّارَاتْ” فيها والذي وقفت على بعضٍ من نماذجه أشهرها تلك “الخَطّارَة” الطويلة الموجودة بالضفة الشمالية لـ “وَادِي آفْرَا”، وتحديدا من وليجة “فَمْ” مَصب “وَادِي تِمَگْلِيتْ اَلْبَيْظَةْ” و”وَيْنْ زَمْرَانْ” وحتى “گَارَتْ اَلْحَسْ” والتي تمتد على طول مسافة تبلغ حوالي كلومتر ونيف تقريبا.
ومن عجاب أمر هذه “اَلْخَطَّارَةْ”، وما يرويه أهل المنطقة، أنها قديمة جدا (وقد وقفت على معالمها عن كثب)، حيث يروون أنه كان يرمى صغير الخيل (جَرُو اَلْخَيْلْ) في أول عيونها هاته، فتعدو الخيول في اتجاه نقطة نهايتها عند “اَلْگَارَةْ”، فيجدون صغير الخيل (المهر) قد قذفته المياه قبل الوصول إليها بكثير، مما يثبتون -بهذه الرواية المُطّردة في أوساطهم- أمر قوة وسرعة تدفق المجرى المائي به (ويذكر بعض الرواة أنها من صنيع يعزى ويهدى في رواية محلية). ولعلَّ هذا ما كان وراء تسميَّة الوادي بآفرا (من اَلْوَافْرَهْ/اَلِوَافَرْ) لوفرة الماء والفرشة المائية به.
وإلى جانب هذه المعالم من العمارة الفلاحية (الزراعية) نجد بالمجال –كما أشرنا سابقا- مخازنا للحبوب والتبن (لَمْرَاسَانْ وَلَمْتَامِيرْ) منتشرة هنا وهناك، ويمكننا أن نضيف –في هذا المقام إضافة إلى ما أوردناه في الجزء السابق من هذه الحلقات الدراسية- مخزن “مَرْسْ وَيْنْ زَمْرَانْ” و”مَرْسْ گْوَيْرَتْ اَلذْيَابْ”، و”مَرْسْ آغْرَيَّنْ”، و”مَرْسْ فَمْ تِيگِيغَتْ” وبه فَدّان (معدر) لجد أهل لبكم إلخ… علاوةً على وجود مجموعة من البيادر غير البعيدة من هذه الفدادين، عبارة عن مساحات منبسطة كان ينقل إليها منتوج الحصاد، وبها تتم عمليات الدَّرْسِ…
واعتبارًا لكون هذا المجال الممتد الأطراف من مواطنهم (أَوْكَارْهُمْ) المألوفة لاستقرارهم ونجعتهم (مَرْعَاهُمْ) التي يوثرون ارتيادها، وتألفها قطعان ماشيتهم من أمدٍ بعيدٍ، فقد استوجبت عليهم -ومن ينزلون بها- أو يشتركون خيرها وشرَّها حَفْرَ الآبار (اَلْحَسْيَانْ، لَبْيَارْ)، وإحداث الينابيع والعيون بكل أصنافها وأشكالها (لَعْگَالِي، تِيلَمَّاسْ، ارَّتْبَاتْ…) للتغلُّبِ على مَحْلِها وندرة الماء بها، فكانت بذلك نقطًا مهمة للرواية والسُّقيا، ومناهِلا (اَمْنَاهَلْ) معلومة؛ رئيسة وثانوية، يقصدها جميع بدوِ الصحراء والنّاحيّة لسدّ ظمأهم أو مطلوب حاجتهم من هذه المادة الحيوية، ولو حاولنا تَتَبُّعَ هذه النقط لأسهبنا في الحديث بشأنها كثيرا، ولكن تستوجب علينا حلقات هذه السلسلة الدراسية (لِجدِّتها وحداثتها) إلا وأن نعمد إلى لفت الانتباه إلى ما تيسّر منها على نحو متدرج انطلاقا من معرفتنا بالمجال، وما وقفنا عليه ميدانيا بخصوص هذا الموضوع، لتبيان حجم الإنجاز البشري (لسُّكَّانها وقاطنيها) من الفعالية في خلق شروط أفضل للاستقرار في أرضٍ (صحراءٍ) قلّما كان يسلمُ المرءُ فيها من بطش عطشها، واصطلاء حرِّ هاجرتها، وقساوة تقلبات مناخها، وتعاقب فصولها…
فمن أهم تلك الآبار المنتشرة في مجال لبطانة لحمادة ابتداءً من الجهة الشرقية؛ بئر (حَاسِي) عند تَلٍّ “گَلْبْ سِيدِي إِبْرَاهِيم أرَّزُوگْ” وأسفله بالوادي “أَمُوحْدِي”، وفي الاتجاه المقابل لذلك بـ “لَكْرَبْ” من جهة الجنوب (القِبلة) “حَاسِي بُو گَرْبَةْ”، وهي بئرٌ تتموقع في منتصف الجبل/الكَدْيَةْ (كْرَبْ لَحْمَادَةْ)، ومنها في الاتجاه الغربي (الساحلي) بموضع “آوْرَا” نجدُ “اعْوَيْنَاتْ لَحْنَشْ” وبذات المسار عند ملتقى “وَادْ آوْرَا” مع “بُو لَگَمَاضَنْ” نصادفُ بئرا تسمّى بـ “حَاسِي اَلْجَيْشْ”، وبأسفل ذلك يتموقع “حاسي اتويزگي” وبعض “العيون”. وجنوب ذلك نجد بئر مهمة يقال لها “حَاسِي ألفَيوَّارْ” بأسفل “وادي إيدُّو”، وفي أسفل ذلك بـ “وادي الزاك” نجدُ “حاسِي” أو “عَگْلَةْ لْمُولُوصْيَا”… وعند الصُّعودِ منها عبر “وادي الزَّاكْ” في اتجاهه العلوي نصادف “عَگْلَةْ” مهمة يطلق عليها ” عَگْلَةْ أَنْبَيْبِيغَةْ” غير بعيد منها بالطرف الشرقي مَشْهَدُ قِبَابِ وزاوية الشيخ “محمد ولد الشيخ المختار البوجمعاوي” وبجانبه ضريح ابنيه “الشيخ النعمة أباه” و”الشيخ اتجيه أباه” رحمهم الله جميعا، وبعد هذا الموضع في الاتجاه نفسه بذات الوادي نجد “عْوَيْنَاتْ اَلْحَلْفَةْ” التي تَصُبُّ فيه مباشرة…
وبالعودةِ إلى “لْمُولُوصْيَا” وتحديدًا عند ملتقى “وَادْ الزَّاكْ” مع “وَادْ تِيْغَزَرْتْ” صاعدين في الاتجاه الغربي (الساحلي) مع هذا الأخير، نجد “حَاسِي أَلْمَرْ” بموضع “اَلنَّگَبْ” وبجانبه “نخلة”، وعند النُّزول للوادي (وَادِي تِيْغْزَرْتْ) في ذات المسار يستوقفنا “حَاسِي أَمْ الشَّوْفْ” الشهير وبه جانبه “اعْگَالِي” قديمة طمرتها السيول، ثم بعده في ذات المنحى غربا -بعد انعطاف على مسافة- نجد “عَگْلَةْ أَهَلْ دَبَّةْ” وقد غشاها الرّدم (عير محفورة)، وعقبه مباشرة يتواجد منهل آخر قرب “أمَّاتْ اَلْكَحَلْ” يسمى بـ “حَاسِي لَمْغَيطِّي” وهو بئر معطّلة، وبالجهة المقابلة له بجبال “وَارَگْزِيزْ” يطلق عليه “حَاسِي أكْسَيكْسُو”…
وعند أخذِ الاتجاه الغربي مُصاحِبينَ سلسلة جبال “وَارَگْزِيزْ” نحو “أَمَطِّي” وما وراءه، نصادفُ آبارًا و”اعْگَالِي” عديدة، من أهمها: و”حَاسِي اَلرَّفْرَافَةْ” بأمطِّي، و”اعْگَيْلَةْ” دافقة، و”حَاسِي اَلزَّهَّارْ”، و”حَاسِي بُو گَجُّوفْ”، و”اعْگَيْلَةْ گْرَيْزِيمَةْ” وهيّ مُرَّة للغاية، و”حَاسِي آوْزَيْلِيفَتْ” إلخ…
وبالعودة إلى الشّرقِ من جديد، وتحديدًا من “اَعْوَيْنَاتْ اَلْحَلْفَةْ” بمحاداة “لَكْرَبْ” نجد أيضا بهذا المسار عددا لا يستهان به من نقط الماء، حيث نصادفُ مباشرةً بئر “حَاسِي “أگرَيْزِيمْ”، ثم يليه بذات المنحى “حَاسِي آگْرُورْ” بـ “لبطانة” من جهة “لَكْرَبْ”. ويُصَاقِبُه ويليه من جهة غرب الجبل (اَلْكَدْيَةْ) “حَاسِي تَابُوجْنَيْبَاتْ” الذي يتموقعُ في الجبل أسفلَ الشريط العلوي (لَحْزَازْ اَلْفَوْگَانِي)… ومن ثمة نعرج في ذات المسار إلى “حَسْيَانْ بُو اجْنَيْبَةْ” (وهما اثنان)، ومنهما ندلفُ إلى “حَاسِي وَينْ سَكُّورْ” المشهور، ثم بعده “حَاسِي أَطْوَيْلَةْ” المعروف، فُـ “حَاسِي لَبَّيْرَات” (ولو أنّ بها آبارًا عدة، حُفرت في فترات متمايزة، كان آخرها بئر أنشأتها جماعة من إحدى قبائل المنطقة المحلية، وسنورد وثيقة خاصة بشأنها)، ثم يُصاقب هذه البئر (أو الآبار) “حَاسِي بَيْبَهْ أو بَيْبَا” المشهورة، وفي الاتجاه الآخر “حَاسِي آخْزَانْ” إلخ… أما بالجهة الغربية (السّاحلية) لهذه المواضع فنجد على التوالي: “حَاسِي اَصْفَيْصِيفَةْ”، ثم “حَاسِي رَگْ لَبْيَاظْ” (وقد كان يسمى هذا اَلرَّگْ قديما بـ “رَگْ آكْوَابِيرْ”/رق القوافل التجارية). وغير بعيد من هذه البئر بذات الناحية أو الجهة بـ “ألگور” أي “گُورْ اَگْنَيْفِيدَةْ” توجد أيضا بئر معلومة عند قبابِ “سِيدِي مُحَمَّدْ اَلْكَنْتِي” وبها روضة له ولعدد من أبناء المنطقة (27 رجلا من أيت بوجمعة) استشهدوا معه في اليوم نفسه بعد احتماءه بهم أو حمايتهم له، علاوة على سلسلة من الآبار الأخرى؛ كـ “حَاسِي آفْرَا” و”حاسي وَيْنْ زَمْرَانْ” إلخ… وللإشارة فإن “تِلَمَّاسْ” لا توجد بصفة مطلقة بـ “وَادِي آفَرَا” ما عدا ما ذكرنا آنفا من الآبار وعمارة “اَلْخَطَّارَاتْ”…
إن هذه الآبار (الحسيان) وأصنافها ومسارات انتشارها بببعض النواحي من مجال لبطانة ولحمادةْ التي أتينا على ذكر بعضها (دون الإحاطة بجميعها) منها ما يعود لحقب وعهود قديمة ترتبط بمسارات قوافل التجارة الصحراوية وحركة الفتوحات الإسلامية التي تبدو بعض المظان الإخبارية القديمة قد قدمت بعض الإشارات التي تمنينا لو أن بعض الباحثين (ممن يعتبرون أنفسهم مؤرخين أو متوّجين بشهادات عليا في هذا المجال) يَنْبَرِي للنبش في ذلك ويتعقّبُ بالتحرّي والتوسُّع والاستقصاء والتقصي ميدانيا في كل ما يتعلق بهذا الموضوع، لكن للأسف كان قصورهم في هذا الباب واضحا، أرغمنا على تجشم عناءه، ومواجهة صعوباته، بما توافر لدينا من إرادة وعزم وإصرار من جهة، ومن معرفة واطلاع ودراية بالمجال، وما يرتبط به من معلومات وإشارات من جهة ثانية.
فمن بين الإشارات التي نستحضرها هنا أو نسوقها بشأن قِدم بعض هذه الآبار بالمجال، ما أوردته بعض المصادر التاريخية بشأن حملات تغلغل الفاتحين إلى المنطقة في اتجاه جنوبها (موريتانيا وأحوازها)، وما أقدموا عليه من حفر للآبار على طول المسار تيسيرا وتسهيلا لعمليات تدفقهم، ونجاح حملات مهماتهم، التي يبدو أنها ظلت تموج عبر مسار (مسلك) استراتيجي يخترق المجال، مازال يعرف إلى اليوم عند أهل المنطقة بـ “طَريق اَللَّمْتَونِي” و”اَللمَيْتِينِي” انطلاقا من نول (وادي نون) نحو “قرية آسَا” القديمة ومرورا بـ “اخنيگ اتويزگي” في اتجاه الجنوب عبر إيدو ووادي الزاك حتى “عگْلَة البَل” (ولعلها هي “بئر الجمالين” التي ذكرها المؤرخ “محمد عبيد الله البكري” في مسالكه وممالكه) بضاحية “واد الزاك” ومنها نحو الغرب وما وراءه (وقد نشرنا مؤخرا وثيقة نادرة جدا للمؤرخ الموريتاني الشهير “المختار بن حامدون” (أو حامد) عبارة عن تقييد بالغ الأهمية بشأن هذه الطريق ومساراتها المخترقة للمجال المدروس (سنورد نسخة من هذا التقييد بخط يد المؤرخ ضمن مرفقات هذه الحلقة). ومازالت أخاديد مرور الخيول بها محفورة في الأرض بعمق نصف متر ونيف تقريبا، يزعم رواة المنطقة أنها كانت طريقا للمرابطين وحركتهم وقوافل التجارة في عصور مضت (راجع مقال سابق لنا بشأن سلسلة تاريخنا الموؤود).
فمن أخبار ذلك، ما ساقه بعض المؤرخين بشأن حملة المجاهد “عبد الرحمن بن حبيب” -بعد حملات سابقيه وخاصة حملة والده المجاهد الفاتح “حبيب بن أبي عبيدة”- الذي استطاع خلالها “في حكمة بالغة وحزم موفق أن يُيَسِّرَ عبور الصحراء بحفره لسلسلة من الآبار التي وصلت ما بين السوس الأقصى وأودغست”، وبذلك تسهيل مأمورية الدعاة وسالكيه من مخاوف العطش بالمنطقة، وتأمين الطرق الصحراوية الشمالية للتجارة مع البلاد السودانية إلخ… ومن ثمة فإن تتبع تاريخ هذه الآبار وسياقات نشأتها وكل ما يتعلق بها من الأخبار والحوادث يستحق –في الحقيقة- بحثا خاصّا؛ مُفردا ومعقودا لها وحده.
بل إن هذا الخط (المحور والمسار بالبطانة ولحمادة) الواصل بين نقط الماء هاته، هو نفسه الطريق التي سلكها أرباب تجارة القوافل الصحراوية في عهودها القديمة، ورجال ووجهاء صنهاجة في رحلاتهم للحج كالأمير “يحيى بن إبراهيم الگدالي” والأمير “الجَوْهَرِ بْنِ سَكَمِ الگدالي” وحملات الأمير “يحيى بن عمر أو عامر اللمتوني” وأبناءه “محمد بن يحيى بن عامر اللَّمتوني” وأخيه “أحمد” وغيرهم، بل من الراجح أن يكون الداعية “عبد الله بن ياسين” عند استقدامه رفقة الأمير الحاج إلى الصحراء قد سلك ذات المسار في اتجاه الشطر الغربي من المجال وما وراءه، ولعله كان كذلك من مسارب حملات حركة المرابطين فيما بعد، كما عبره أعلام كثر من القطر الموريتاني منهم محمد يحيى الولاتي الذي عثرنا له على مراسلة محلية يتحدث فيها عن بعض الأغراض التي نسيها بوادي نون (لمطة) ويطلب أن ترسل إليه بقرية آسا حين يقيم مؤقتا…
وإذا كان المقام لا يسمح بالمزيد من الاسهاب والتوسع في تتبع أهمية “شريان” هذه المسار ومحوره التاريخية وما كان لها من أثر بالغ في إحداث وخلق بعض الآبار القديمة بالمجال منها على وجه الخصوص؛ “عَگْلَةْ اَلْبَلْ” (بئر الجمالين) و”حَاسِي أَنْوَيْبْ” و”حاسي تِيغَرْفِينْ” و”السَّبْطِي” و”الفَرْسِيَّةْ” وآفْرَا” و”رَگْ لَبْيَاظْ” إلخ… فإن ثمة آبار عديدة ظهرت في عُهودَ لاحقة على الفترات التاريخية السابقة وامتدت دينامية إحداثها وإنشائها إلى فترات متأخرة، كان أغلبها يتأرجح ما بين قبيلتين من كبريات قبائل الصحراء؛ وهما: “قبائل أيت أوسَ” و”قبائل الرگيبات”، وغالبا ما تكون في بعض المناحي متجاورة بذات المكان، وفي أحايين أخرى على نحو متباعد بجهات المجال.
فمن نماذج الآبار المتقاربة التي أحدثتها المجموعتين القبليتين بالمجال؛ نذكر: بئرين لكل منهما في “أَمْ اَلشَّوْفْ”، وفي “أَرْغَيْوَةْ”، وفي “أَنْويبْ”، وفي “بُو تَلَگِّيتْ” بغرب موضع “وَيْنْ سَكُّورْ”، وفي “وَيْنْ سَكُّورْ”، وفي “لَبَّيرَاتْ” (لا لَبَّويْرَاتْ كما تمَّ تَصْحِيفُهَا مؤخرًا للأسف الشديد) بجماعة لبيرات القروية، وبـ “آفْرَا” في ضفة وادها الخصب الشهير، وفي “خَنْگَةْ أَكْسَاتْ”، وفي “رُوسْ لَگْطَيْفَةْ”، وفي “شَبْشُوبَةْ” إلخ…
ومن الآبار التي حفرتها قبائل الرگّيبات بالمجال المدروس؛ نذكر: بئر “حَاسِي لَمْرَيْرْ”، و”حَاسِي بَيْبَهْ” (أو بَيْبَا) الشهيرة التي حفرها أحدُ رجالاتها من أهل الجاه وقتئذٍ (وقيل في رواية أنه حفر على يد رجل من أهل الخرشي)، و”حَاسِي ….” إلخ… ومن أهم الآبار التي أنشأتها بالمقابل “قبائل أَيت أوسَ”؛ نذكر: “لَبَّيْرْ لَحْلُو” الذي يقال أن جماعة من قبيلة أهل حمو اعلي هي من حرفته بالمكان. و”حَاسِي أَمَطِّي” الذي يقال أنه أحدث خلال العشرية الأولى من القرن الماضي على يد جماعة من قبيلة أيت بوجمعة، و”حَاسِي وَيْنْ زَمْرَانْ” التي حفرها أحد رجالاتهم من أهل الجاه والموالي، و”حَاسِي اَلنَّگَبْ” الذي يقال أن جماعة من أيت إيدر قد أحدثته بزعامة أحد وجهائها الكبار، و”حَاسِي آخْزَانْ” إلخ…
ولئن كان المقام لا يتسع هنا للاسترسال في ذكر صنيع هذه المجموعات القبلية وغيرها (المستقرة والمرتادة) بمجال لبطانة ولحمادة، ولما كان لذلك من دور مهم في تحقيق ظروف مناسبة للاستقرار والاستيطان والانتجاع من جهة، ولما يُعبر عنه بالمقابل من أحوال التعايش والتساكن والتعاون بين مختلف المجموعات القبلية الصحراوية وشواهدها فيه قائمة من جهة ثانية. فإن كل ذلك نعتبره من مظاهر وتجليات أن هذه الأرض لم تكن أرضَ خلاء لا آثار فيها لأفراد هذه المجتمعات البدوية التي استطاعت بتقاليدها ونمط حياتها البدوية أن تترك بصماتها فيه عبر التاريخ وما زالت تلهج بصنيعها فيه.
وارتباطًا بذات الصنيع والموضوع، فإن الحديث عن نقط الماء بالمجال ودينامية ساكنته في تحصيل وتوفير وإحداث المزيد منها يقودنا إلى التعريج على صنف آخر يُعرفُ بـ “لَعْگَالِي” و”اَلرَتْبَات” التي تنتشر بشكل واسع بهذه الصحراء، وكان فضل إنشاءها يعود لبعض أجدادنا وأجداد غيرنا من ساكنة هذه الأطراف، لذلك وانطلاقا من المسح الدراسي الميداني والجولات الاستطلاعية، وما وقفت عليه من الشواهد والآثار المتعددة، واستجمعته من الروايات والأخبار المتفرقة هنا وهناك، سأحاول بشكل منهجي -قدر الإمكان- تقديم بعض المعطيات عن توزيع هذه اَلْعُقَل (لَعْگَالِي) بالمجال ومن أنشأها من المجموعات القبلية وعشائرها المحلية أو من أفرادها الذكور والإناث إلخ…
فعند تتبع هذه اَلْعُقَل (لَعْگَالِي) نرصد انتشارًا واسعا لها بشرق وغرب لبيرات بعدد من الوديان الكبرى والأنهار، من أهمها بالجهة الشرقية؛ “عَگْلَة” (عبارة عن رَتْبَةْ كبيرة) في “رَأَسْ وَادْ لَثَلْ”، يقال لها “اَعْگَيْلَةْ أَطْوَيْلَةْ” وقد أنشاتها ثلاث قبائل هي؛ أيت إيدر وأيت بوجمعة وإداوتيا، و”عَگْلَة مَنِّينَةْ” (وهي رَتْبَة) وقد حَفرتها امراة بوجمعاوية من أهل الخرشي كانت زوجة لأحد رجالات قبيلة إيمغلاي (وهو جد أهل السالك وحماد) وضريحها غير بعيد من المكان، و”اعْگْلَة أَهَلْ لَغْزَالْ” نسبة إلى رجال منهم وهي إحدى خيام أيت بوجمعة، و”اعْگْلَة لَعْرَيْبِيَّة”، وقد أحدثتها طائفة مختلطة من إداوتيا وأيت إيدر وأيت بوجمعة بـ “وَادْ لَثَلْ”، و”اعْگْلَة تَامَالِيحَتْ” بموضع “وَيْنْ سَكُّورْ”، وبالتحديد بـ “مَنْحَرِ اَلْگُورْ” من جهة الشَّرق. و”اعْگْلَة وَيْنْ سَكُّورْ” بـ “فَمْ بُو تْنَگْيتْ” (وهي عبارة عن رَتْبَةْ كبيرة)، وقد حفرتها هي الأخرى جماعة من أيت إيدر وأيت بوجمعة وإداوتيا. و”اعْگَيْلاتْ لْعَيْوَجْ” التابع لـ “وَيْنْ سَكُّورْ” بالموقع الذي يَصُبُّ فيه “لْعَيْوَجْ” على هذا الأخير من جهة الشّرق. و”اعْگْلَة” بـ “اَطْوَيْلَةْ” غير بعيد من الآبار الموجودة هناك، وبالتحديد بمحاداة أشجار كبيرة لصنف أرگان هناك. و”اعْگْلَة ولد أسويلم” بـ “وَادْ أَمْ الدُّولْ” عند مضيق (مَخْنَگْ أَظْلُوعْ)، و”اعْگْلَة أَرْبَيَّبْ” قُربَ “أَطْوَيْرَفْ لَكْحَلْ” غير بعيدة من “أَرْبَيَّبْ لَعْجَاجْ” و”اَلظَّلْعَةْ” إلخ…
أما بالجهة الغربية؛ فإن من أهم اَلْعُقَل (لَعْگَالِي) المشهورة هناك؛ نذكر: “اعْگْلَة لَمْزَيْرَّبْ” بموضع “مَغدَرٍ” ينهض هناك بعض هطول المطر أو عند السّيل، و”اعْگْلَة أَظْرَيْبِينَةْ” نسبة للموضع الذي توجد فيه وهي غير بعيدة من “گُورْ اَگْنَيْفِيدَةْ” غرب مركز لبيرات، وهي عبارة عن “رَتْبَةْ” أنشأها فريق من قبيلة أيت بوجمعة وإداوتيا. و”اعْگْلَة” في “آشْگِيٍگْ” الغربي وهي الأخرى مُحدثة على يد ذات الجماعتين القبليتين. و”اعْگْلَة بُو اجْنَيْبَةْ” (رَتْبَةْ) وقد أحدثتها وحفرتها قبيلة أيت إيدر وخصوصا جَدُّ أهل عبد الدائم صاحب الوجاهة والجاه الشهير، وقد كان يستوطن تلك الناحية حتى توفيّ بها ودفن هناك، وقباب ضريحه وروضته بها مشهور إلخ…
إن هذه الآثار والدينامية في إحداث وإنشاء هذه الأصناف من الآبار والينابيع كالعُقَلِ والعيون وغيرها (وللإشارة فمعجم هذه الينابيع وأصنافها ثري وغني جدا بالإطلاقات والاصطلاحات في اللهجة الحسانية نأمل أن يفرد له بحث خاص دقيق وشامل يحفظها من الضياع ولو على شكل ما يعرف بالرسائل اللغوية) يعبّر بما لا مجالا للشك أن “لبطانة ولحمادة” كانت مأهولة بالساكنة، ولهم فيها مآثر ومعالم وشواهد تلْهَجُ بتاريخهم وحجم صنيعهم فيها، وتؤكد من جهة أخرى عن طبيعة الحيازة الفعلية للأرض إلى جانب غيرهم ممن تساكنوا وتعايشوا فيها.
اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.