رغم أنه شيد في القرن العاشر هجرية على يد الولي الصالح سيدي عبدالله بن محمد بن امبارك الأقاوي، نسبة إلى والده سيدي مُحمد بن امبارك العلامة الشهير والصوفي التقي الورع المنغمس في الروحانيات وفقه الباطن، وأحد مؤسسي أولى فروع الزاوية الجزولية بالجنوب المغربي، إلا أنه لازال صامدا باق على بنائه القديم محتفظا بوظيفته الدينية وتراثه المعماري البسيط إلى يومنا هذا.
والحديث هنا عن مسجد الأعرج أو العيريج الذي يوجد بثنايا إحدى أزقة دوار أكادير أوزرو(حصن الحجر) التابع لجماعة أقا اقليم طاطا.. مسجد تتضوع منه نفحات من الورع والروحانيات وقصص لا تنتهي من وحي التاريخ، يُتغَنّى في فنائه بقصائد شعرية أمازيغية في موضوع التوسل والنصائح ومدح الرسول عليه السلام، شيده سيدي عبد الله بن محمد بن امبارك، في أواسط القرن العاشر هجرية للتعبد بعد أن نزح منفصلا عن والده سيدي مُحمد بن مبارك حيث بنى منزلاً لأسرته، ومجمعًا لقبيلته، ليصبح بعد إمتداد العمران بهذا المدشر مسجدا تؤدى فيه الصلوات المفروضة، وهو ما يسمى اليوم بضريح “العيريج” وحقيقته أنه مسجد بدون ضريح، لأن ضريح الولي الصالح يتواجد بمقبرة والده بمدشر الزاوية بأقا.
ورغم أن مسجد العيريج إنقطعت فيه الصلوات بعد إمتداد القرية حيث بنى أهلها مسجدا آخر يتسع لساكنتها إلا أنه لازال محافظا على شكله الأصلي المكون من ثلاث صفوف يتقدمها مكان للإمامة، بدون صومعة، تحج اليه النساء من كل حدب وصوب أيام الإثنين والجمعة، للتعبد وقراءة الأذكار، والتبرك و طلب العفو و الشفاء من بعض الأمراض حسب المعتقدات وطلبا للزواج و تحقيق الأمنيات، وتستعمل حفيدات الشيخ من الأسرة الجعفرية، اللاتي يتكلفن بتسيير المسجد بالتناوب، أدعية و طرقا صوفية في الدعاء لكل زائرة.
ودون الخوض مع الحفيدات فيما نسب لجدهن الولي الصالح من كرامات تخص الأولياء، وبعيدا عن التيمن الذي يشكل جزءا أساسيا في المخيال الشعبي، يبقى من المؤكد أن المسجد أفاد كثيرا نساء هذه المنطقة ويظل مرتبطا للوافدات عليه من كل مكان بين راغبة في إزدياد علم، أو ولد أو بركة وباحثة عن زواج.
أما سبب التسمية (مسجد العيريج)، فقد إرتبط بالولي الصالح إبان حياته، حيث حسب العديد من الروايات الشفهية كان سيدي عبدالله بن محمد بن امبارك الأقاوي رحمه الله يعرج برجله اليسرى.
سيدي عبد الله بن محمد بن امبارك الأقاوي
و للوقوف على الحمولة التاريخية لمسجد العيريج لابد لنا من الخوض في سيرة مؤسسه الولي عبد الله بن محمد بن مبارك الأقاوي الذي كان يدرس في مدرسة تاركانت العتيقة.
هو الشيخ الفقيه الولي الصالح الجامع الرئيس أبو محمد عبد الله بن المبارك بن علي ابن الولي الصالح أبي عبدالله محمد بن مبارك الأقّاوي، نسبة إلى أقّـا، ولد في ذي القعدة سنة 936هـ، ونشأ وتربى في بيئة علمية متميزة، أسهمت في تكوين شخصيته العلمية الفذة ونبوغه ونجابته، فهو ينتسب إلى أسرة علمية اشتهرت بالصلاح والورع والعلم، أنجبت الكثير من العلماء الذين تميزوا في العلوم الشرعية، منهم جده الأعلى العلامة سيدي محمد بن مبارك الأقاوي مرشد مؤسس الدولة السعدية أبوعبدالله القائم بالله السعدي، كما تتلمذ على أبرز مشايخ عصره، منهم: فقيه جزولة سيدي محمد بن إبراهيم بن عمر بن طلحة التمنارتي، والفقيه سيدي أحمد بن موسى بن المبارك السملالي، والفقيه الإمام أبومحمد سيدي عبد الله بن عمر المضغري1027هـ وغيرهم، وتبوأ مكانة علمية سامية، ورُزق من الذكاء والفطنة وحُسن الفهم ما فاق به معاصريه وأقرانه، وعلتْ شهرته، وذاع صيته، وطال باعه في المذهب المالكي، لذلك شُدّت إليه الرحال لطلب العلم من جميع سوس، فكان من أشهر تلاميذه الذين سمعوا منه وقرأوا عليه: سيدي يعزى بن موسى التاملي، وأبوزيد عبد الرحمن بن محمد التمنارتي (ت 1070 هـ)، وأبو العباس أحمد بن أبي بكرن وعُرِف بالسيرة الحسنة، ودماثة الخلق، والنبوغ العلمي، فأثنى عليه كل علماء عصره، فهذا تلميذه عبدالرحمن التَّمَنَارْتي يقول فيه: «شيخنا الولي الصالح الجامع الرئيس عبد الله ابن المبارك، كان من أعلام الدولة المنصورية ببلاد المغرب، انتهت إليه الرياسة بها في سياسة الأدب، معظماً عند ملوكها وعظمائها، مرجوعا إليه في حوادث الأمور عند نزولها واعترائها، ماضي العزم في تأنٍ وتؤدة، مستجم التدبير، سديد الرأي، كامل الفضل، متين العلم والدين، شديد العناية بمساعي القلب وصفاء الباطن، حسن السيرة ميمون المشورة، صادق الفراسة، له فطنة صادقة، ومروءة فائقة، ومآثر حسنة، وآثار في الأرض محمودة».
توفي الأقاوي، رحمه الله، في 21 من رمضان سنة 1015هـ.
حفيدات يحملن المشعل
وللولي حفيدات يحملن مشعل جدهم في ترسيخ القيم الاسلامية الحقة من تلقين الأذكار الدينية والأمداح النبوية وإصلاح ذات البين وإطعام الطعام والنصح بفضل التربية الصوفية التي تنهل من نصوص القرآن الكريم، وتحكي أكبر حفيدات الولي السيدة خادة الجعفري :”جدودنا الأوائل ينحذرون من مكة المكرمة نسبة الى جعفر بن أبي طالب، ابنُ عم النبي (ص) وأحدُ وزرائه…منذ زواجي أصبحت من القائمات على تسيير المسجد وأحضر طقوس الذكر والإبتهال به، وأذكر أن المسجد في البداية كان عبارة عن صفين وبعد الترميم تبرع سيد بمساحة أضافوها صفا ثالثا “.
وتتابع السيدة خادة التي فاق عمرها السبعين عاما: “جدنا الولي عبد الله بن محمد مشهور في تاريخ المغرب، وقد كان من المقاومين في عهد الإستعمار البرتغالي، وله كرامات كثيرة.. نزح عن والده وأول لبنة أنشأها بالدوار الذي كان عبارة عن غابة هو هذا المسجد الذي يزيد عمره عن 500 عام، ومنه إنطلق تكوين الدوار”.
ثم اطلعتنا على وثيقة لازالت تحتفظ بها، تتضمن شجرة نسب جدهن سيدي عبدالله بن محمد تتفق في تفاصيلها مع ورد على لسانها.
ولسائل أن يستفسر من أين يستمد هذا المسجد كل هذه الجاذبية لاسيما وأنه، خلافا للمعهود، مسجد خاص بالنساء، علما بأن اللوحة المثبتة عند مدخل المسجد لا تكاد تشفي غليلا.
هذا التساؤل فكت شيفرته السيدة خادة عندما أبرزت أن المسجد يشتهر بتلاوة القرآن الكريم والإبتهالات الدينية بالأمازيغية الحصر على النساء يومي الاثنين والجمعة من بعد صلاة العصر الى حدود صلاة العشاء طيلة العام، كما يشهد المسجد كل صباح من صباحات الشهر الفضيل جلسات روحانية عظيمة يقصدها جميع نساء الدوار وما جاوره من دواوير سعيا وراء المغفرة وطلب الثواب والأجر العظيم.
وبخصوص الوظيفية الإجتماعية للمسجد، شددت فاطمة الجعفري، إحدى حفيدات الولي الصالح، أن المسجد ظل على مر الزمان يشكل مكانا للتواصل بين نساء الدوار لتدارس أوضاعهن وفرصة لتبادل المعارف وإقامة جلسات قرآنية.
تضيف السيدة فاطمة: “للمسجد _ صندوق مال _ يعتبر من معالم المسجد يتم فيه جمع تبرعات زوار المسجد من النساء، خاضع لإدارة القائمات على المسجد لضمان تحقيق الإستفادة من المبلغ المتحصل عليه إجتماعيا وهو دورٌ من الأدوار الإضافية والدائمة التي يقوم بها المسجد على مرِّ سنوات طوال، حيث يتم جمع التبرعات طوال العام ليتم فتحه أثناء جمع عام لنساء الدوار فقط منتصف شعبان من كل سنة”.
وتوضح السيدة فاطمة:” في منتصف كل شهر شعبان نضع صندوق المال أمام أكبر إمرأتين من حفدة الولي إحتراما لهما وإعلاءا لقدرهما، فيقمن بحساب ما تم جمعه أمام جمع غفير لنساء الدوار اللاتي يلجأن للصمت لتجنب التشويش على عملية العد، ويختلف المبلغ المتحصل عليه من عام لآخر، وبعد أن تعلن الحفيدتين عن المبلغ المتحصل عليه والذي يختلف من عام لآخر يسلمنه لإمرأتين من القائمات على المسجد، واللتين تقومان بدورهما بالتسوق لعقد السَّلْكَة، وهي عادة إجتماعية من عادات تدين أهل الدوار كما سائر أقطار البلاد قوامها دعوة جميع رجال الدوار وغيرهم من الدواوير الأخرى وحملة كتاب الله تعالى لختم القرآن الكريم مع نفحات من مدح خير البرية والتغني بشمائله العطرة بفناء المسجد الذي يتعطر بروائح البخور والعطور الزكية إحتفاء بالحاضرين وإجلالا للملائكة المطهرين ليسمع صداها في الجوار، يعقب ذلك إطعام المدعوين والدعاء كما دأب في مثل هذه المجالس الربانية التي تحفها الملائكة وتغشاها السكينة، ثم تعقب النساء الرجال في مجلسهم ليقمن هن كذلك بقراءة جماعية لما تيسر من القرءان وترديد إبتهالات دينية بألحان شجية وأصوات عذبة، وكانت ولا تزال لهاته العادة الدينية مقاصد إجتماعية تتمثل في صلة الرحم مع الأهل والأحباب والترحم على من رحل من ذويهم وأقاربهم.
ثم تقوم القائمات على فتح باب التبرعات لشهر رمضان المبارك منفردا، والذي تنظم فيه جلسات صباحية للذكر ومدح خير الأنام تختتم بفتحه في اليوم السابع من شوال وتنظيم “المعروف”، وهو طقس إجتماعي خاص بالنساء، يقوم على دعوة جماعية لنساء الدوار والدواوير المجاورة لوليمة تحضرها النساء فقط، وتحكي خادة أنه يعتبر بمثابة تكريم للنساء مقابل تعبهن في منازلهن في تحضير موائد رمضان لأفراد أسرهن، ونشر المحبة والألفة بينهن.
ولمسجد العيريج وظيفة إجتماعية اخرى تعزز البعد التضامني بين ساكنة الدوار، فبالإضافة الى إحياء المناسبات الدينية به، وإعتباره مكانًا لإجتماعات نساء الدوار لمناقشة أمورهن اليومية وحل المشاكل والمنازعات، وإستضافة عابري السبيل، يتوفر المسجد على ترسانة من الأواني وأدوات الطبخ والفراش يتم إقراضها لباقي عائلات المدشر خلال المناسبات الإجتماعية (عقيقة، زواج، ختان..) بشكل مجاني.
وبالنظر إلى القيمة التاريخية والحضارية لمسجد العيريج الذي صمد لأزيد من خمسة قرون، ولازال يؤدي وظائفه الدينية والإجتماعية عبر كامل المنطقة، هو اليوم بحاجة إلى التفاتة لتصنيفه ضمن قائمة التراث الوطني.
سوق العيريج
وفيما تتعالى أصوات النساء تصدح بتلاوات وأمداح مختلفة بفناء المسجد، لا تتوقف في الجهة الأخرى من أكادير أوزرو حركة البيع والشراء في سوق العيريج.
ويعود تاريخ هذا السوق الى أواخر القرن الماضي و بداية هذا القرن حيث كانت جنبات الضريح تشهد إقبالا من طرف تاجرات وتجار حلي النساء قبل أن يتطور ليصبح سوق أسبوعي يقام في الهواء الطلق يوم الجمعة من كل أسبوع، أسهم في شهرته نسبه للولي الصالح “سيدي عبدالله بن محمد العيريج”.
ويعتبر سوق العيريج محركا للتجارة المحلية، حيث أضحى من الأسواق الأسبوعية المميزة بالمنطقة، يحج اليه سكان دوار أكادير أوزرو والدواوير المجاورة لشراء ما يحتاجونه وبيع منتوجاتهم الزراعية من حمضيات وتمور ودواجن وبيض بلدي وأقمشة وحلي وغيرها من المعروضات والمصنوعات.
وما زاد رواد هذا السوق هو الحضور المتميز والكبير للنساء حتى أضحى يسمي ب”سوق النسا”، حيث تنصب النساء وهن يفترشن الأرض بسطاتهن بما لذ وطاب من المنتوجات الزراعية المحلية الخالية من المواد الكيماوية (خضاروفواكه بيولوجية، مسحوق الثوم والبصل المجفف العضوي…)، أو الحلي وأدوات الزينة النسائية التقليدية( كالكحل والسواك وعلب الحناء المطحونة يدويا بالرحى)، وتتميز هذه المعروضات بجودتها العالية وسعرها المقبول.
إضافة إلى أنواع متعددة من التمور المحلية المعروفة بجودتها وقيمتها الغذائية المرتفعةعلى غرار “بيطوب” و”الفكوس” و”ادمان” و”ساير” وغيرها من الأنواع التي تجود بها واحة أقا.
ويحكم هذا السوق بل وحتى المجتمع بأسره أعراف محلية وقبلية تقوم على ثقافة الثقة والصدق والخوف من العيب التي هي أقوى غالباً من أي سلطة، فإن حدث ودخلت السوق وأنت لا تملك المال لإقتناء ما تحتاجه، تجد من يكفلك عند الباعة فيقرضونك ويمهلونك أجالا حتى أداء الدين فتعود غانما.
ونظرا لمكانة هذا السوق بقلوب ساكنة المنطقة وإرتباطهم الوثيق به ودوره الاجتماعي والثقافي الكبير الذي يتجاوز المنظور التجاري، أتمنى حماية خصوصيته في حدها الأدنى، وتوفير كل الظروف المواتية لجعله سوقا فلكلوريا ناجحا يحفظ كرامة النساء العارضات لسلعهن، لا سيما أن معظم المدن الأوربية تقام فيها هذه الأسواق بشكلها الفلكلوري في الشارع فتقفل الشوارع وتنصب بها بسطات ومظلات حتى يتمكن القرويون من القدوم من قراهم لبيع الخبز المنزلي والزيتون والأجبان والمشغولات اليدوية.