عندما نتناول موضوعا كهذا في خضم الصمت المتواطيء حول ظواهر خطيرة تهدد الامن المائي للمنطقة، فإننا نسعى بذلك بدل التباكي والعويل أن نخلق جوا إيجابيا لثقافة الحل وتعميقها اعتمادا على الالمام الشامل بجوانب الاشكالات والظواهر الواقعة، وذلك للتنوير بكل الجوانب العلمية والقانونية والعرفية والبيئية التي تخص موضوعا حساسا كهذا.
بكل أسف واستغراب نسجل سكوتا غريبا من طرف السلطات المعنية؛ والمنتخبون وجمعيات المجتمع المدني الرسمي، والمنتمين للقبائل المالكة للمجال؛ وكافة الفعاليات المجتمعية عن جرائم بيئية خطيرة في حق واحات كانت تشكل إلى عهد قريب مصدرا كبيرا من مصادر إغناء اسواق جهة ݣليميم بكافة أنواع الخضر والفواكه المحلية، والمنتوجات الفلاحية والحيوانية الطبيعية الغير مسرطنة؛ والغير معدلة جينيا. هذه السلوكيات الخطيرة التي سجلناها منذ سنوات عديدة تتمثل في:
– انتشار الضيعات الفلاحية بشكل متسارع في كافة الأراضي السهلية الواقعة في مجال جماعة أسرير وجماعة فاصك؛ والجماعات الترابية المحيطة.
– هذه الضيعات تعتمد في زراعتها على إنتاج عدة أنواع من الخضر والفواكه كالموز وبعض انواع البطيخ، والتي تتنافى كليا مع إمكانيات الفرشة المائية الهشة للمنطقة، بوصفها تنتمي للمجال الشبه صحراوي الذي غالبا ما يعاني من الجفاف وقلة التساقطات المطرية.
– كل ذلك أدى بشكل متسارع إلى استفحال مشكل الندرة المائية؛ الذي انتقل من فكر التدبير التقليدي للاستدامة والامن المائي وحق الاجيال المتلاحقة في الماء كعامل اساسي للحياة والاستقرار بهذه المناطق التاريخية، إلى الاستنزاف الهمجي الانتهازي لهذه الثروة الحيوية التي لم تشهد المنطقة مثيلا لها على مر العصور.
– وتمثل هذا الاستنزاف في التساهل مع بعض السلوكات الخطيرة التي لا تتناسب بالمطلق مع إمكانيات الفرشة المائية في منطقة وادنون كونها منطقة هشة من حيث الثروات المائية وذلك بسبب قلة التساقطات المطرية، وهشاشة مخزون المياه الجوفية.
– ومن مظاهر هذا الاستنزاف الخطير للثروات المائية الذي تعيشه المنطقة، هو جفاف الكثير من الآبار والعيون التاريخية، منها ما جف تماما، ومنها ما نقص صبيبه المائي إلى درجات تنذر بكارثة بيئية قد تعيشها واحات تاريخية في المنطقة، كواحات اسرير وتغمرت وفاصك وتايدالت وتيݣليت وغيرها من الواحات الكثيرة التي ظلت تشكل نقطا بيئية وسياحية مضيئة في جهة قلما ينتبه مسؤولوها لأهميتها الاساسية في كل البرامج والمقاربات التنموية المستقبلية.
– و نورد هنا أسماء بعض العيون التي جفت تماما منذ أواخر القرن العشرين إلى الآن:
عين فاصك ، عين تارمݣيست، عين خروبة، عين بوݣجوف، عين تايدالت، بالاضافة للكثير من الآبار التي كانت الى وقت قريب تشكل موردا مائيا حيويا للكثير من الرحل والمستقرين ومواشيهم، عبر حقب بعيدة.
– ولعل أخطر ما تواجهه هذه المنطقة هو تناقص الصبيب المائي الذي تعرفه عينا وارݣنون و تجنانت، وقد كانتا من أغنى العيون في المنطقة؛ لا من حيث الصبيب المائي القوي الذي تتوفران عليه، ولا من حيث المساحات المهمة من الاراضي التي كانتا تسقيانها من ساقية واحتي أسرير وتيغمرت، وهو المجال المعروف تاريخيا بمجال نول لمطة كأقدم منطقة في وادنون، حتى أن الاسطورة المحكية كانت تقول بأن معين وارݣنون لا ينضب، لأن به عيونا تنبع من مياه النيل،
– ولا نريد أن يقع لنا ما وقع للكثير من المناطق التي عاشت هذا الاستنزاف المائي الخطير، كمنطقة سوس ماسة درعة، ومنطقة الغرب، التي استنزفت مائيا وأصبحت مهددة في مستقبلها وأمنها المائي، وهي مناطق كانت غنية بفرشتها المائية ومخزونها المائي الكبير من السدود والانهار الكثيرة، وكيف بمنطقة شبه صحراوية كمنطقة وادنون التي تستنزف فرشتها المائية تدريجيا بتفريخ الضيعات الفلاحية التي لايهتم أصحابها سوى بالتربح الفاحش المبني على الاستنزاف الشرِه للثروات البشرية دون اعتبار لحق الساكنة في هذه الثروات، وكذلك حق الاجيال القادمة فيها.
– إن ما يخيفنا فعلا ويرفع من منسوب هواجسنا كفعاليات مدنية ومجتمعية هو الا تتحرك السلطات المعنية لإيقاف هذا الاستنزاف، عبر فرض معايير وقوانين صارمة توقف مثل هذه السلوكيات الخطيرة التي تهدد أمننا المائي كأجيال عاصرت هذه الظواهر المشينة؛ ولايجب أن تقف مكتوفة الايدي دون حراك.
– ولعل من الاشغال الجارية الآن في ورش سد فاصك، قد ساهمت أيضا في سد بعض المنابع العميقة لروافد عين تجنناتت التي اوشك صبيبها على الجفاف، في ظل سكوت مطبق من طرف القبائل المستفيدة من مياه هذه العين.
الحلول الترافعية
لا شك بأن الترافع عن حقوق المجتمعات هو حق مكفول قانونيا ودستوريا، لكن الترافع لدى هذه المجتمعات غالبا ما ينتهي عند توصيات وملتقيات ومراسلات محدودة، ثم تمر العاصفة، وتعود حليمة لعادتها القديمة.
إن الترافع عن حقوق المجتمعات يحتاج إلى نخب قادرة على بلورة كل التخوفات والهواجس الى قضايا مصيرية يتم تبنيها باستماتة كبيرة، عبر عقد لقاءات حقيقية تتناول مسألة الترافع من كل جوانبه الحقوقية والقانونية، والمجالات والمساطر التي يجب سلكها لاستعادة هذه الحقوق المكفولة للمجتمعات.
ولعل الفاعلية المجتمعية تبقى أساسا لكل تحرك هادف ينبني على خطوات فعالة تعتمد على كل القراءات الجغرافية والقانونية والمجالية:
اللقاءات التحسيسية
لابد من عقد لقاءات تحسيسية بين كافة فعاليات المجتمع المدني، والقبلي للمنطقة، ويندرج في ذلك الندوات و الملتقيات والايام الدراسية، والخرجات العلمية للوقوف على ما آلت إليه المنطقة من جفاف وانهيار منظومة تدبير الندرة المائية في ظل استنزاف الضيعات الفلاحية للمخزون المائي دون هوادة، ودون فائدة اقتصادية أو تنموية على المنطقة. وهنا ندعو مراكز البحث وجمعيات المجتمع المدني والهيآت الحقوقية وممثلي الاحزاب السياسية والمنتخبون إلى المشاركة الفعالة في هذه التحركات، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ولابد أن تتمخض عن كل هذه اللقاءات تنسيقيات تتولى الملف الترافعي ضد هذه الظواهر المخربة للبيئة والمهددة للاستقرار البشري والتنمية المستدامة.
الترافع العلمي والتواصلي
من هنا يبدأ التحسيس بالقضايا المجتمعية، وتبدأ الآلة التواصلية في التحرك من أجل التوعية بمخاطر هاته السلوكيات المدمرة، ولعل هذا التحسيس يبدأ بالاحصائيات والدراسات العلمية التي تثبت خطورة مثل هاته الظواهر، ويدخل في هذا النطاق، الجرد الكامل للأرقام المهولة لمساحات الاراضي السقوية التي أصبحت يبابا والاغراس التي يبست، والعيون التي جفت نهائيا، والعيون التي نقص صبيبها بشكل مخيف.
وهنا تكمن الحاجة لدراسات علمية تبين الزراعات الملائمة للمنطقة وفرشتها المائية، ونوعية تربتها المالحة، وتحدد أنواع الزراعات التي تشكل خطورة على فرشتها المائية.
كل هذا من اجل خلق ترافع علمي مبني على تواصل واعي بآليات المرحلة وخطوات الترافع الهادف الى ردع كل من تسول له نفسه المساس بالامن المائي للسكان.
الترافع القانوني
وهنا نشير إلى أهمية الترافع القانوني عن القضايا المجتمعية والبيئية، خصوصا وأن هذا الحق هو من الحقوق الاساسية للمجتمعات في ظل دولة الحق والقانون، والسعي إلى الحكامة الجيدة ومنع كل السلوكيات الضارة بحق الأجيال القادمة في كل الثروات الحيوية التي يزخر بها الوطن.
ويتمثل الترافع القانوني في :
1)- مراسلة الجهات المعنية وإخطارها بخطورة مثل هاته السلوكيات الخطيرة.
2)- الوقفات السلمية كوسيلة للتحسيس بمخاطر هاته السلوكيات.
3)- رفع قضايا قانونية إلى المحاكم المختصة، وترفع هاته القضايا ضد السلطات والمجالس الغير متجاوبة مع فعاليات المجتمع المدني في التحرك ضد هاته المخاطر، وكذلك رفعها ضد أصحاب الضيعات الفلاحية لوقف سلوكياتهم نحو استنزاف الثروات المائية، و مطالبتهم بتعويضات للسكان وملاك الاراضي المتضررة من تناقص منسوب الفرشة المائية ونقص مياه العيون.
كانت هذه محاولة بسيطة للبدء الفعلي من طرفنا كفاعلين مدنيين في نهج أسلوب ترافعي يبتعد كليا عن الترافعات النمطية الغير مجدية، والدعوة الى فتح نقاش جدي بين كل الفاعلين بالمنطقة، لوقف هذه السلوكات الخطيرة أولا، وكذلك للبدء في التنسيق الميداني من أجل خلق نخب مجتمعية قادرة على الترافع والدفاع القانوني عن مجالها وثرواتها بكل فعالية واستماتة.