لماذا يُعتبر الملك الراحل الحسن الثاني عبقرياً استراتيجياً من الطراز الرفيع ؟
إقناع صدام حسين أن يصبح حليفه يعتبر هزيمة للجزائر؛ وخطوة ستجعل الاستراتيجيين في حيرة لعقود !
كان أمامه خصم أقوى منه عشر مرات على الأقل.. خرج بانتصار تاريخي سيدرس في كتب التاريخ لعقود كانتصار خالد بن الوليد علي البيزنطيين أو انتصار يوسف بن تشفين على قشتالة.
كانت جزائر بومدين مدعومة بتحالف ثوري عالمي مخيف: الاتحاد السوفياتي، كوبا، ليبيا القذافي، سوريا حافظ الأسد، كوريا الشمالية، جنوب اليمن، فيتنام…
جزائر بومدين في أوج قوتها (1975-1986)، بدعم سوفياتي مطلق، جيش يفوق الجيش المغربي عدداً وعتاداً، احتياطي نقدي هائل، نفط وغاز، صناعات ثقيلة، وهيبة ثورية تجعلها زعيمة العالم الثالث(…).
ورغم ذلك، خرج الملك الحسن الثاني من المواجهة بانتصار تاريخي مطلق، لم يخسر فيه شبراً واحداً من الصحراء، بل رسّخ سيادته عليها إلى الأبد، وأخرج الجزائر مهزومة سياسياً ومنهكة اقتصادياً وممزقة داخلياً…
هذا الانتصار ليس صدفة، بل نتيجة عبقرية استراتيجية نادرة في التاريخ الحديث…
اللعب على التناقضات الدولية ببراعة:
1️⃣ – أقنع أمريكا أن الصحراء حاجز ضد التمدد السوفياتي في غرب إفريقيا.
2️⃣ – أقنع فرنسا أن المغرب هو الضامن الوحيد لاستقرار المغرب العربي.
3️⃣ – أقنع السعودية أن بومدين “شيوعي ملحد” يهدد الحرمين بثورته.
4️⃣ – بنى «الجدار الأمني بالصحراء» وحوّل الحرب إلى استنزاف طويل لا تستطيع لا الجزائر ولا ليبيا ولا سوريا تحمله مالياً للأبد…
فتحت دول الخليج خزائنها للمغرب: مليارات الدولارات منحاً وهبات وقروضاً بدون فوائد، وسلاح أمريكي يمر عبر قنوات خليجية ليتفادى الحظر النظري على توريد السلاح لمنطقة النزاع.
حتى السوفيات أنفسهم، في النهاية، تخلوا عن بومدين واعترفوا بسيادة المغرب على الصحراء ضمناً.
إقناع صدام حسين شخصياً رغم أن العراق كان حليفاً نظرياً للجزائر في جامعة الدول العربية، إلا أن الملك الحسن الثاني أقنع صدام (منذ 1976-1977) أن بومدين يطمع في قيادة “الأمة العربية” وأن طموحه لن يتوقف عند الصحراء المغربية بل سيمتد إلى الخليج نفسه يوماً ما(…).
1️⃣ – فتح صدام قنوات سرية مع الرباط: بترول عراقي مجاني أو بشروط ميسرة جداً للمغرب في أسوأ السنوات…
2️⃣ – تدريب ضباط مغاربة في العراق…
3️⃣ – معلومات استخباراتية مشتركة ضد البوليساريو والجزائر.
وفي 1980-1988 (حرب العراق- إيران)، بقي المغرب محايداً رسمياً…لكن الجميع كان يعلم أن الحياد يميل بقوة لصالح بغداد، وهذا كان صفعة مدوية للجزائر التي كانت تدعم إيران سراً(…).
ترك الحلفاء ينزفون مع الجزائر.
1️⃣ – ليبيا أنفقت مليارات الدولارات على البوليساريو ثم انسحبت مكسورة بعد هزيمة أوجادو 1988.
2️⃣ – سوريا سحبت لواءها المدرع خاسرة بعد سنوات من النزيف بلا فائدة.
3️⃣ – القذافي انشغل بحروبه في تشاد وبالعقوبات الدولية.
4️⃣ – كوبا انسحبت بهدوء مع بداية انهيار الاتحاد السوفياتي.
الشاذلي بن جديد: كيف كان الرجل الذي ورّث الجزائر أكبر كارثة في تاريخها الحديث؟
كان الشاذلي بن جديد (1987- 1992) أسوأ رئيس حكم الجزائر منذ الاستقلال، ليس لأنه كان شريراً، بل لأنه كان غير كفء على كل المستويات، وجاء في الوقت الذي كانت فيه الجزائر تحتاج إلى عملاق مثل بومدين…فجاءت بـ”ضابط متوسط” لا يفهم لا الاقتصاد ولا السياسة ولا الاستراتيجية…
في خمس سنوات فقط قام بسلسلة من القرارات الطائشة والعبثية: بدأها بفتح الاستيراد فجأة عام 1986 بعد انهيار أسعار النفط، دون أي خطة أو تدرج، فانهار الدينار الجزائري من 5 دنانير للدولار إلى 25 ديناراً في سنتين، وأُغلقت المصانع العملاقة لأن قطع الغيار أصبحت تُكلف عشرة أضعاف، وغرقت البلاد في ديون خارجية تجاوزت 30 مليار دولار بعد أن كانت صفر ديون في عهد بومدين…
ثم فكّك الدولة البومدينية بسرعة جنونية بإلغاء التخطيط المركزي ووزارة التخطيط وتجزئة الشركات الوطنية العملاقة مثل سوناطراك وسونالغاز وبدء خصخصة عشوائية صارت بؤرة الفساد الأولى، وألغى احتكار الدولة للاستيراد فتحولت الجزائر من دولة منتجة إلى سوق مفتوح للبضائع الأوروبية الرديئة.
وبعد أحداث أكتوبر 1988 فتح الباب للتعددية الحزبية عام 1989 لامتصاص الغضب، لكن عندما فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بـ55% من البلديات و188 مقعداً من 231 في الدور الأول 1991، ألغى الانتخابات في يناير 1992 فأشعل العشرية السوداء التي قتلت اكثر من 200 ألف مواطن جزائري وكلّفت تريليون دولار…
وفي ملف الصحراء، خسر القضية نهائياً بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار 1991 وهو يعلم أن المغرب يسيطر على 90% من الأرض وأن البوليساريو صارت مجرد لاجئين في تندوف.
وأخيراً فقد هيبة الجزائر دولياً تماماً، فبعد أن كان بومدين يُرعب واشنطن وباريس ويُحترم في موسكو، صار الشاذلي يُستدعى كتلميذ مشاغب ويُملى عليه الإصلاحات من صندوق النقد الدولي الذي حكم البلاد فعلياً منذ 1990.
بخمس سنوات فقط حوّل الشاذلي الجزائر من قوة إقليمية مخيفة إلى دولة مفلسة وممزقة ومهينة…
الخلاصة:
موت بومدين 1978، انهيار أسعار النفط 1986، أكتوبر 1988، العشرية السوداء…الملك الحسن الثاني بقي واقفاً يشاهد تحالفاً كاملاً ينهار قطعة قطعة، بينما هو يوقّع اتفاق وقف إطلاق النار 1991 والبوليساريو لا تزال محاصرة في تندوف إلى اليوم…
الحسن الثاني واجه دولة مدعومة بتحالف ثوري عابر للقارات: الجزائر + ليبيا + سوريا + الاتحاد السوفياتي + كوبا + كوريا الشمالية…
جيش أقوى، مال أكثر، أيديولوجيا ثورية، دعم دولي شبه مطلق لكنه هزمهم جميعاً، واحدًا تلو الآخر، بصبر استراتيجي، ذكاء ديبلوماسي ، واستغلال عبقري لأخطاء الخصوم وتناقضاتهم.
هذه عبقرية استراتيجية لا تتكرر إلا مرة كل عدة قرون..تخيّل خالد بن الوليد لو كان يقاتل البيزنطيين…وفي نفس الوقت كان الفرس يموّلون خالد سراً ضد البيزنطيين!
هذا بالضبط ما فعله الحسن الثاني…لهذا سيظل هذا الانتصار يُدرَّس في كليات الحرب والعلوم السياسية لقرون قادمة:
كيف يهزم ملكٌ واحدٌ تحالفاً عالمياً…بجيش أضعف ومال أقل…
لكنه امتلك العقل الاستراتيجي الأخطر في القرن العشرين العربي, الحسن الثاني لم يكن ملكاً فحسب… كان أستاذ لعبة الأمم




