«لم نأتِ للسياسة، بل للكرامة»… شهادات مباشرة من احتجاجات جيل Z

وادنون تيفي29 سبتمبر 2025
«لم نأتِ للسياسة، بل للكرامة»… شهادات مباشرة من احتجاجات جيل Z
حمال السوسي
حين يتكلّم الشارع بلغة الأجيال الجديدة

في نهاية الأسبوع الأخير من شتنبر 2025، اكتشف المغاربة أن ما بدا طيفاً عابراً على مواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن يتحوّل فجأة إلى مشاهد حقيقية في شوارع العاصمة الرباط ومدن أخرى. شباب في مقتبل العمر، بعضهم لم يتجاوز الثامنة عشرة، تحدّوا الطوق الأمني وخرجوا يهتفون بكلمات بسيطة لكنها شديدة الدلالة: “نريد الصحة والتعليم… لنا ولأبناء من يضربوننا.”

لم تكن هذه الجملة مجرد شعار؛ بل مرآة لمفارقة عميقة في مغرب اليوم: جيل جديد يطالب بحقوقه الأساسية، ويذكّر حتى من يواجهه بالعصي والهراوات أن أبناءهم بدورهم يحتاجون نفس المدارس والمستشفيات. إنها لغة مختلفة عن لغة المعارضات التقليدية، لغة تنبع من إحساس مباشر بالظلم اليومي، أكثر من كونها نتاج تأطير حزبي أو أيديولوجي.

من هم “جيل Z” المغاربة؟

جيل Z في المغرب هو جيل الهواتف الذكية بامتياز، جيل “الستوري” و”الهاشتاغ”، جيل يرى العالم بعين مفتوحة على تجارب الآخرين. هذا الجيل يعيش المفارقة: من جهة انفتاح غير مسبوق على العالم، ومن جهة أخرى انسداد داخلي في الخدمات الأساسية، وانكماش فرص الشغل، وانهيار الثقة في الخطاب السياسي التقليدي.

ولذلك فخروجه إلى الشارع لم يكن نتيجة تعبئة حزبية أو نقابية، بل انفجار تلقائي لوعي جمعي جديد: وعي يعتبر أن التعليم والصحة ليسا امتيازاً تمنحه الدولة، بل حقاً أصيلاً.

شهادات من الميدان: بين الألم والسخرية السوداء

المقاطع التي وثّقها موقع “الصوت” تُظهر شباباً يعبّرون بعفوية جارحة. أحدهم يقول: “نبغي صحة وتعليم… ولادنا ما لقيناش ليعالجهم.”

شاب من تاونات تحدثت عن مستشفى إقليمي بلا تجهيزات: “ما كاينش الأطباء، ما كاينش الدوا، ما كاين حتى المعايير.”

شاب آخر قاطع السرد ليقول بمرارة ساخرة: “كيصرفو على المونديال على ظهر الفيضانات والحوز وعلى ظهر الأولويات.” الجملة هنا تحمل ما يشبه “المانيفستو” لجيل جديد: لماذا تُصرف المليارات على مشاريع كبرى تُسوَّق للعالم، بينما المواطن العادي لا يجد سريراً في مستشفى محلي؟

احتجاجات سلمية… وقمع غير مفهوم

الشهادات تصرّ على أن الوقفات كانت سلمية، وأن هدفها لم يكن سوى “إسماع الصوت للصحافة”. لكن الواقع، كما يرويه المحتجون، كان مختلفاً: تطويق أمني، منع للتجمّعات، اعتقالات بالجملة، واعتداءات على فتيات وصبية لم يتجاوزوا العشرين.

المفارقة أن هذه الصور أعادت إلى الأذهان مشاهد ربيع 2011، مع فارق مهم: الفاعل اليوم هو جيل لم يعش تلك اللحظة، ولم يتأثر بسردياتها. إنه جيل “بعد-الربيع”، جيل يرى أن السياسة أخفقت، لكنه لا يزال يؤمن أن الشارع يمكن أن يفرض التغيير.

بين السطور: ماذا يقول الشباب حقاً؟

إذا تجاوزنا العبارات الانفعالية، يمكن تلخيص رسائل هذا الحراك في ثلاث نقاط محورية:

  1. إعادة ترتيب الأولويات الوطنية: شباب الرباط وتاونات وأكادير يسألون بوضوح: أيعقل أن تُصرف المليارات على ملاعب المونديال، بينما مستشفياتنا الإقليمية بلا تجهيزات؟

  2. رفض التسييس والوصم: المحتجون يكررون: “ما عندنا علاقة بالسياسة ولا بالأحزاب.” في الوقت نفسه يرفضون اتهامهم بالارتباط بالخارج أو “التأطير المشبوه.” إنها محاولة لتثبيت هوية جديدة: احتجاج اجتماعي صرف.

  3. المطالبة بالكرامة قبل الخبز: الملفت أن الشعارات لا تتحدث عن الشغل أو الأجور، بل عن التعليم والصحة. إنها أولويات ترتبط بالكرامة الإنسانية أكثر من الجانب المادي.

هل أخطأت الدولة قراءة الرسالة؟

الجواب الأولي يبدو نعم. فبدل أن تُبادر المؤسسات الرسمية إلى فتح قنوات استماع سريعة، جرى التعامل مع الحراك بمنطق أمني تقليدي: المنع والتطويق والاعتقالات. لكن هذا الخيار قصير النفس، لأنه يطفئ الحريق مؤقتاً دون معالجة الجذور.

السؤال الذي يفرض نفسه: أليس من مصلحة الدولة نفسها أن تستثمر في مستشفيات ومدارس تحفظ السلم الاجتماعي، بدل أن تغرق في تكاليف الأمن والمحاكم والاعتقالات؟

البُعد السياسي: الأحزاب في مأزق

المثير في احتجاجات “جيل Z” أن الأحزاب السياسية بدت خارج اللعبة تماماً. لم يُرفع أي شعار حزبي، لم يُطالب بأي وسيط حزبي.

هذا الغياب يكشف مأزقاً عميقاً: الشباب لم يعودوا يثقون في المعارضة بقدر ما لم يعودوا يثقون في الحكومة. السؤال هنا موجّه مباشرة إلى الأحزاب: كيف يمكن أن تكونوا “مؤسسات الوساطة” وأنتم غائبون عن أهم لحظة شبابية في العقد الأخير؟

البُعد الاجتماعي: صرخة الهامش

معظم الشهادات تأتي من مدن مهمشة: تاونات، الحوز، ضواحي أكادير. هنا تكمن خطورة الرسالة: لم تعد المشكلة مجرد غضب عاصمي، بل صار الأمر صرخة الهامش ضد المركز.
وهذا يعيد إلى الواجهة سؤالاً قديماً: هل المغرب ماضٍ نحو نموذج “مغربين”: واحد عصري متقدم في المدن الكبرى، وآخر مهمّش في القرى والجهات البعيدة؟

قراءة في السياق الدولي

هذه الاحتجاجات تأتي في لحظة حساسة: المغرب يتحضّر لمونديال 2030، ويقدّم نفسه كواجهة استقرار في المنطقة. لكن صور شباب مقموعين في الشارع قد تضعف هذا الخطاب أمام الرأي العام الدولي.

وهنا مفارقة أخرى: الدولة تنفق مليارات من أجل صورة دولية مشرقة، لكنها تخسر هذه الصورة نفسها عندما تعجز عن تدبير وقفة سلمية لعشرات من شبابها.

أسئلة مفتوحة للمستقبل

  • هل ستعيد الدولة ترتيب أولوياتها، فتضع الصحة والتعليم فوق المشاريع الضخمة؟

  • هل ستنشأ آلية مؤسساتية لإشراك شباب “جيل Z” في صياغة السياسات العمومية؟

  • هل ستفهم الأحزاب أن غيابها عن الشارع يعني خسارتها لجيل كامل من الناخبين؟

  • وهل يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دور الوسيط، قبل أن تتحوّل هذه الصرخة إلى انفجار لا يمكن التحكم فيه؟

خاتمة: رسالة من الشارع إلى الدولة

ما حدث في الرباط ليس مجرد “احتجاج عابر.” إنه إعلان ميلاد فاعل اجتماعي جديد: شباب جيل Z المغربي، الذي لا يؤمن بلغة الخطب ولا وعود الانتخابات، بل بلغة الشارع المباشرة.

قد تُخمد الهراوات أصواتهم مؤقتاً، لكن الجملة التي قالها أحدهم تبقى تتردّد: “نخرج طلباً للصحة والتعليم… لنا ولأبناء من يضربوننا.”

هذه ليست فقط رسالة احتجاج؛ إنها تذكير مؤلم بأن المستقبل مشترك: بين شباب يصرخون، ودولة مطالَبة بالإصغاء… قبل فوات الأوان.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.