
في خطاب سامي جديد، حمل كعادته مزيجا من الحكمة وبعد النظر، وجه جلالة الملك محمد السادس نداء صريحا ومباشرا إلى الجارة الجزائر، دعوة إلى طي صفحة الخلافات وفتح صفحة جديدة عنوانها حسن الجوار والمصير المشترك، لم تكن دعوة بروتوكولية، بل كانت نداء عقلانيا وواقعيا في لحظة إقليمية ودولية دقيقة، لحظة توصف بكل وضوح بأنها فرصة أخرى لتجاوز صراع عقيم دام لعقود، دون أن يحقق أي طرف منه أي مكسب حقيقي.
خطاب يعلو فوق الحسابات الضيقة
جلالة الملك أكد في خطابه بمناسبة عيد العرش أن المغرب سيظل وفيا لنهج اليد الممدودة، مبرزا أن لا عداوة بين البلدين، ولا مبرر منطقي لاستمرار إغلاق الحدود وتغذية أجواء التوتر، وهو بذلك يعيد التأكيد على أن المغرب يملك من القوة والثقة ما يسمح له بالانفتاح على محيطه، لكنه لا يفرض على الآخرين الانخراط، تاركا الباب مفتوحا أمام الإرادة السياسية الصادقة.
هذه الدعوة لا تستند فقط إلى شعارات الأخوة والتاريخ المشترك، بل إلى ضرورة سياسية واقتصادية وجيوستراتيجية باتت اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، إن دولا كثيرة تجاوزت جراح الحروب الأهلية والحدود الدموية، وبنت تحالفات اقتصادية قوية، فهل يعقل أن يبقى المغرب والجزائر رهينتين لصراع من مخلفات الحرب الباردة؟
الخطاب الملكي، كعادته، جاء متزنا وعميقًا في مضامينه، حيث دعا جلالة الملك، مجددا، إلى فتح صفحة جديدة مع الجارة الجزائر، مؤكدا أن المغرب لم يكن ولن يكون مصدر تهديد أو عداء للجزائر، بل يتطلع إلى مستقبل منفتح ومزدهر يجمع الشعبين الشقيقين.
إنها ليست المرة الأولى التي يمد فيها جلالة الملك يده للسلام، لكنها المرة التي تأتي في سياق دولي حاسم، يجعل من الاستجابة لهذا النداء ضرورة تاريخية لا تحتمل المزيد من التردد.
تحولات دولية تسرع مسار الحسم
يأتي الخطاب الملكي في وقت تزداد فيه وتيرة الاعتراف الدولي بسيادة المغرب على صحرائه، فقد انضمت بريطانيا مؤخرا إلى صف الدول الكبرى التي تقر بمغربية الصحراء، بعد الموقف الأمريكي التاريخي في 2020، والمتجدد في برقية الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الأخيرة، ومواقف داعمة صريحة من فرنسا وإسبانيا وألمانيا ودول أوروبية أخرى، ودول أمريكا اللاتينية، ودول إفريقية وآسيوية، اعترافات من نتائجها فتحت العديد من التمثيليات الدبلوماسية بكل من العيون والداخلة لأزيد من أربعين دولة، في إشارة واضحة إلى أن شرعية الموقف المغربي تترسخ على الأرض وفي أروقة القرار الدولي.
هذه التطورات تعني شيئا واحدا: المشروع الانفصالي يضمحل، والتمسك به أصبح عبثا سياسيا ودبلوماسيا على الجزائر قبل غيرها، من هنا، تبدو الدعوة الملكية أكثر من مجرد نداء، إنها عرض تاريخي لتجاوز الماضي والانخراط في المستقبل.
المغرب والجزائر… مصير مشترك
الرسالة التي يحملها الخطاب واضحة: لا مزيد من إهدار الوقت فالرهان الحقيقي هو بناء مغرب كبير، قوي بتكامله، متصالح مع تاريخه، منفتح على محيطه، ومتفاعل بإيجابية مع المتغيرات الدولية.
وبدل أن تواصل الجزائر دعم أطروحة تتهاوى، فإن الخيار الأسلم هو أن تنصت لصوت العقل والتاريخ والجغرافيا، فالشعبان المغربي والجزائري لا يحتاجان إلى وسيط ليتحاورا، ولا إلى حدود كي يتقاسما الحلم المغاربي المؤجل.
اليوم، والمغرب يمضي بخطى واثقة نحو تثبيت وحدته الترابية، لم يعد هناك متسع كبير للمناورة أو للمراهنة على المعطيات القديمة، الخطاب الملكي جاء كنداء صادق، لأن المستقبل لا ينتظر المترددين، وقطار الحل ماض نحو وجهته.
إن استمرار الجزائر في العناد، لن يؤدي سوى إلى مزيد من العزلة الإقليمية، واستنزاف داخلي لا طائل منه، أما خيار المصالحة والتكامل المغاربي، فهو وحده الكفيل بتحقيق مكاسب متبادلة، وتجنيب شعوب المنطقة مزيدًا من الهدر للفرص التاريخية.
إنها اللحظة المناسبة للجزائر أن تستعيد دورها الطبيعي، بعيدا عن سياسة الهروب إلى الأمام، وأن تدرك أن مكسبها الحقيقي لا يكمن في دعم نزاع خاسر، بل في الانخراط الصادق في حل يرضي الجميع، حل يقوم على قاعدة: لا غالب ولا مغلوب، بل رابح وحيد هو شعبا البلدين إذا ما اختارا طريق الحكمة والواقعية.