“هاك أولدي عافاك وصل ليا هاد الوصلة لفران”.. جملة قد اجزم قطعا أن أيا من صبية هذا الجيل لم يسمعها من قبل.. وقد لا يسمعها بتاتا.. جملة حرموا من سماعها.. كما حرم الزوج من سماع توصية زوجته له عند الخروج صباحا “جيب معاك الخبز من الفران وأنت راجع من الخدمة”.. فران الحومة كان أشهر واهم مكان في الحي كله.. حيث تلتقي النسوة صباحا لتبادل التحايا.. و”تقرقيب الناب” والنميمة في الغائبات منهم.. ويتحول ليلا إلى ما يشبه مقهى صغير.. ملتقى لكبار الحي.. لشرب الشاي وانتظار اذان العشاء.. كان التوجه إلى فضائه طقس إلزامي لا يمكن الاستغناء عنه.. نقطة عبور يومي للصغار مثل الكبار.. النساء مثل الرجال.. محور تدور حوله حياة الساكنة كيفما اختلفت مستوياتها الاجتماعية.. “فران الحومة”.. الذي غالبا ما كان يستقر قرب حمام الحي.. وغير بعيد عنهما نجد المسجد.. ثم السقاية كمورد للماء.. ليكتمل الخماسي الأساسي المكون للحي بالمسيد/المدرسة القرآنية..
طاهي الخبز/لفرارني .. الشخص المحبوب من طرف الجميع.. الغريب عن الحي في الغالب.. لا احد من الشباب أو الأطفال يعرف تاريخ حلوله بالحي.. فتحوا أعينهم وجدوه بينهم.. فقط الشيوخ من يتذكرون مسيرته وذكرياته معهم.. يبادل عبارات التحية والسلام.. والابتسامة الدائمة.. مع كل وافد إلى فرنه.. داخل جدران تجدها غالبا مكسوة بسواد الأدخنة وبقايا الرماد.. كما هي قسمات وجهه التي يلفحها سعير “بيت النار”.. فغدت مع الأيام والسنين.. إلى قسمات داكنة ضاع معها لون بشرته الأصلي.. وضعه الخاص والاعتباري بين سكان الحي.. يجعله قريبا من الجميع.. نساء ورجال.. كبارا وصغارا.. وبخبرة السنين.. يستطيع تمييز قطع الخبز الخاصة بكل بيت.. ويعيدها إلى “الوصلة” دون خطأ أو غلط.. لغز محير حقا.. يستطيع التعرف على كل افراد البيوت.. بيتا بيتا.. يعرف الحاضر منهم والمسافر.. من عدد خبزات كل “وصلة”.. إن نقصت أو زادت.. مطلع على كل المستجدات.. عن طريق الخبز تعمقت علاقته مع مجتمع الحي.. يشكل داخل ثقافتنا الشعبية احد الشخصيات الأساسية والرئيسية التي تؤثث فضاء أي حي.. غالبا لا يكتفي بأداء وظيفته ك”خباز”.. بل يتجاوزها ليصير مستودع الأسرار.. والمطلع على كل الخبايا.. من يريد اكتراء بيت.. او يعتزم خطبة إحدى بنات الحي.. يلجا له للمشورة والنصح.. كانت لمهنة الفران خشية ومهابة.. يرهبه الكل ويتقي الصدام معه.. لكي لا يخسر مودته.. يأتيه الزبناء بألسنة تفيض تلطفا ومهادنة ورجاء وتوددا وتوصية بالعناية ب “الوصلة”.. وعند العودة لأخذها.. فإما أن يسعد أصحاب الخبز.. أو يكدر صفوهم.. عندها تكال عليه اللعنات والاحتجاجات.. إذا ما عاد الخبز إلى البيت يابسا أو به شيء من الاحتراق.. غير أن هذا الشتائم والسخط تمارس في غياب عامل الفران.. لا في حضوره.. وحتى وان حضر.. فتكون في استحياء.. خشية ظهور خصومة بغضاء بين الأسرة وعامل الفران.. وهو ما ليس في صالح الأسرة..
خلال أيام المناسبات الدينية.. الأعياد و”لعواشر”.. كما هو الحال عند حلول اي فرح.. عرس أو عقيقة.. يتحول فضاء “الفران” إلى محج ومزار جماعي.. قبل حلول يوم العيد بمدة.. تشرع النسوة في الإبداع والاختراع.. إعداد ما لذ وطاب من الحلويات و”الشهيوات”.. والكل له كامل الثقة في عامل الفران الذي له خبرة في “مزاج اللهب”.. ودرجة الحرارة الملائمة لطهي وإنضاج كل طبق وصينية.. وله حصة في ما يستقبله من مأكولات.. سكان الحي يحسبون له كل حساب.. حقه محفوظ.. فلا يتجاوزونه في الأعياد.. أو في شعبان.. أو رمضان.. له نصيب من زكاة الفطر.. وهدايا الأعراس والعقيقة.. كما له نصيب من الحلوات والشهيوات المطهوة في الفران..
إلا أن ذاكرة أحياءنا الشعبية اليوم.. تصارع من أجل أن تحفظ تلك القصص والذكريات التي نسجتها شخصية “الفرارني”.. بحضورها المميز وسط ساكنيها.. فقد غابت – ويا للأسف- الأفرنة التقليدية من أحيائنا.. وهجمت علينا المحلات العصرية.. وبعدها دكاكين الخبز بأفرنتها الغازية.. وقبل هذا وذلك.. الكل فضل نهج سياسة الإنتاج والاستهلاك الذاتي.. فكانت الاستعانة بالفرن المنزلي.. الغازي أو الكهربائي.. كبداية النهاية.. فهل يا ترى يتجدد الماضي.. وتحيى مجددا ومضات جميلة يصعب محوها ونسيانها.. ويتجدد تراث الأفران التقليدية التي ترسخت في الأذهان على مر الأجيال.. وقبل هذا وذاك.. يبقى السؤال الأزلي .. “كيفاش كيعقل مول الفران على خبز كل واحد و عدد الخبزات؟ وكل وصلة ومولاها ؟