جاء شهر رمضان… أو “سيدنا رمضان” كما يحلوا للبعض منا ان يسميه.. شهر الغفران والتوبة واليمن والبركات.. شهر لا يأتي “على غفلة”.. كما نقول.. بل لا بد أن تسبقه أهبة واستعدادات وطقوس تليق بمكانته المقدسة.. شهر له حقوق.. كما له واجبات.. كما قال عمنا نجيب محفوظ.. شهر له صوت.. ورائحة.. له شخصية.. تجعله غير باقي الشهور.. شهر مقتطع من السنة.. تكثر فيه التقية.. شهر الاحتفاء بالطبخ والمطبخ.. شهر احتفالي.. تتكرر فيه نفس المشاهد.. نفس الاسطوانة.. نفس الكلام.. محاولة منا للتمسك بأشياء جميلة.. رغم معرفتنا أن الزمن يتحول.. يتبدل.. ومياه التغيير تجري تحت جسر الحياة.. نحاول الصمود والتمسك بالرغبة في القبض على شظايا من الماضي المتلاشي .. بحثا عن نوستالجيا رمت بها رياح الزمن بعيدا عنا.. وسنكرر بدون ضجر أو ملل… حديثنا عن الزحام في الأسواق.. مشاجراتنا اليومية قبل الإفطار.. حوادث السير.. والانتحار.. سنكرر عادتنا في الصلاة في الشوارع.. نفس الشوارع التي كنا نتبول فيها طيلة العام.. سنعيد نفس اللقطات والمشاهد.. بتفاصيل لا تحتاج إلى مخرج.. نفس السيناريو.. والأجواء والممثلين.. سنتساءل من صام قبل الآخر؟؟.. هل سنصوم مع السعودية أم بعدها؟؟.. وهل يجوز الصوم بغير توقيت السعودية؟؟.. هل سنصوم تسع وعشرين كعادتنا.. أم نكمل الثلاثين؟؟..وماذا عن مرضى السكري؟.. والقلب والضغط.. هل يجوز صيامهم وهم مرضى.. أم لهم ظروف تخفيف.. كم مسكينا سيطعمون؟؟ هل القبلة تفطر الصيام؟؟ ماذا عن الاغتسال.. قبل الفجر أم بعده؟؟.. وسيظهر الدعاة.. ويكررون نفس الأجوبة.. بنفس الابتسامة.. كأنهم على علم أننا فقط نتصنع..
ثم سننتقل للطعن في سيرة الفن والفنانين.. وبعد تكرار لازمة أن رمضان هو للعبادة والمسجد.. سنتحلق جميعا أمام شاشاتنا.. لتتبع سيتكوماتنا ومسلسلاتنا.. وكامرتنا الخفية.. لنحطم أرقام المشاهدة.. ونحن نندب حظنا في أموالنا أين تضيع.. وكلفة الإنتاج الباهضة التي كان من الأجدر توجيها لبناء مدرسة أو مستشفى.. والفنانين أنفسهم يسخرج الخاسرون منهم.. ومن لم يصلهم نصيبهم من كعكة الإنتاج.. للصراخ في الصحافة.. والاحتجاج عن انتشار المحسوبية.. والزبونية.. في اقتسام الغنيمة.. فرمضان عندهم هو شهر “الهمزة” وليس الغفران..
سنعيش نفس اللحظة.. واللقطة.. لقطة العام الماضي.. والعقد الماضي.. ونسمع نفس الخطبة.. خطبة الإمام يعدد أمامنا فضائل الشهر الكريم.. ومميزات وحسنات ليلة القدر.. ومعاني الصيام.. وكيف نجوع لنشعر بإحساس الفقراء والمساكين واليتامى وعابري السبيل..
وهكذا سنعيش رمضاننا الكريم.. بطقوسه الخاصة.. بكل صخبه.. ورواجه.. واحتفاليته.. سنصوم صياما ليس كيصيام الآخرين.. فكل الديانات تصوم إيمانا.. وعفة.. ونبلا.. وطهارة.. ونحن نصوم بالكثير من الضجيج و “الترمضينة”.. وجرائم قبل الإفطار.. فيضيع الصيام.. ويضيع الأجر.. وبعد ذلك نتساءل لماذا فقد رمضان حلاوته ووهجه القديم.. والحقيقة أن رمضان لم يتغير.. بل نحن من تغيرنا.. ازددنا سوءا ونفاقا وخطايا.. وللأسف كل ما يحدثنا عنه “الفقيه” في رمضان.. يختفي.. يضيع.. ويتلاشى بعد صلاة العيد في شوال..