نجحت المعارضة التركية في إستثمار ورقة الأجانب لصالحها بقوة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت في ماي الماضي، وكان المأمول أن تتراجع هذه الحالة (العداء للأجانب) بعد الانتخابات، حيث حافظ التحالف الحاكم على مواقعه في الرئاسة والبرلمان، لكن ما حدث هو العكس، إذ تصاعدت العنصرية ضد الأجانب على المستوى الشعبي، وزاد عليها التشدد الرسمي خصوصا من قِبل وزارة الداخلية في عهد وزيرها الجديد.
حملات مكثفة الآن في كل الأماكن العامة، ميادين، وسائل مواصلات بمختلف أنواعها بما فيها المركبات الصغيرة، تستهدف الأجانب، والتأكد من هوياتهم، وحيازتهم بطاقات إقامة قانونية سارية، وإصطفاف عشرات الحافلات في بعض الميادين ومنها الميدان السياحي الأشهر وسط إسطنبول “ميدان تقسيم” لترحيل المخالفين إلى أقسام الشرطة والحجز وحتى الترحيل خارج الحدود خصوصا للسوريين والأفغان، وإذا كانت عمليات التأكد من سلامة الموقف القانوني للمقيمين هي إجراء سيادي روتيني، إلا أن الجديد هو التشدد مع من لديهم بطاقات إقامة ولكن لسوء حظهم لم يكونوا يحملونها وقت التفتيش الشرطي، وفي السنوات الماضية كانت الشرطة تمنحهم الوقت لإحضار هوياتهم أو حتى تصطحبهم إلى منازلهم للتأكد من ذلك، لكنها الآن ترفض هذا الأمر، وتستسهل نقل المخالفين مباشرة إلى مقار الاحتجاز، وتهدد بالترحيل، وإن كانت معظم الحالات نجحت في إثبات ملكيتها وثائق إقامة، ونجت بالتالي من الترحيل خارج الحدود.
رسالة الانتخابات الأخيرة
وزير الداخلية الجديد علي يرلي كايا هو وزير مهني، أي أنه تدرّج في عمله البوليسي حتى صار وزيرا، عكس الوزير السابق سليمان صويلو الذي كان وزيرا سياسيا بامتياز، فهو نائب برلماني قديم ورئيس حزب سابق (الحزب الديمقراطي)، وكان وزيرا للعمل والضمان الاجتماعي قبل أن يصبح وزيرا للداخلية، وقد انتقل إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم، وأصبح الآن عضوا في البرلمان، وربما يتم ترشيحه لرئاسة إحدى البلديات المهمة، وكان داعما رئيسيا للمهاجرين في تركيا خصوصا السوريين الذين فتح لهم باب التجنيس، ودافع بقوة عن مواقفه الداعمة للمهاجرين في مواجهة حملات المعارضة. أما الوزير الجديد كايا، فرغم أنه تخرّج من قسم الإدارة العامة في كلية العلوم السياسية بجامعة إسطنبول عام 1989، فإنه تدرّج في مناصب حكومية بدءا من قائمقام، إلى منصب الوالي لعدة محافظات، وصولا إلى المنصب الوزاري الجديد، ولم يُعرف عنه الاشتغال بالعمل السياسي، ولذا فهو صارم في تطبيق القوانين، وقد أعلن أخيرا عن حملة تستمر أربعة أشهر لمكافحة الهجرة غير النظامية، في كل أنحاء تركيا، تشارك فيها قوات الشرطة والدرك وخفر السواحل، متوقعا أن تسفر الحملة عن انخفاض ملحوظ في عدد المهاجرين غير النظاميين في إسطنبول عقب انتهاء هذه الحملة.
رغم فوز التحالف الحاكم بالمقعد الرئاسي وبأغلبية مريحة في البرلمان، فإنه لم يتجاهل رسالة العداء للأجانب التي انعكست على نتيجة الانتخابات، وكادت تطيح بالرئيس وحزبه، وأجبرته على خوض جولة إعادة، وتعامل الرئيس والحزب بجدية مع هذه الأصوات الغاضبة، وتعهد للمرشح القومي المنافس (سنان أوغان) باتخاذ إجراءات عاجلة ضد المهاجرين غير النظاميين، وها هي وزارة الداخلية تنفذ تلك التعهدات.
لماذا استمرت العنصرية؟
في الأنظمة الديمقراطية أو شبه الديمقراطية لا مجال لتجاهل الأصوات الغاضبة، خاصة أن تركيا تتأهب لانتخابات البلديات، حيث يحرص الحزب الحاكم على تحقيق فوز جديد، واستعادة البلديتين الكبيرتين (أنقرة وإسطنبول) اللتين فقدهما في العام 2019 وفاز بهما مرشحا المعارضة، ومع تصاعد الأزمات الاقتصادية، والارتفاع الكبير للأسعار مع تراجع الليرة، تتصاعد صيحات الغضب الشعبي، ولم تطفئها زيادة مرتبات موظفي الحكومة والقطاع الخاص وهي الأكبر خلال العقود الماضية، وبالتالي تصبح ورقة المهاجرين هي الورقة الأسهل، والأكثر قدرة على تعويض الحزب الحاكم (انتخابيا) أضرار السياسات الاقتصادية الحالية، التي كان أحدثها مضاعفة رسوم الخدمات العامة، بنسب كبيرة.
على عكس التوقعات، استمرت -بل تصاعدت- ظاهرة العداء للمهاجرين عقب الانتخابات، وكان ذلك مثار دهشة المهاجرين أنفسهم الذين توقعوا أن تضع نتيجة الانتخابات نهاية لتلك الآلام، وفي تفسير ذلك فإن القوميين المتطرفين الأتراك نجحوا خلال الفترة السابقة على الانتخابات في تسميم عقول فئات كثيرة من الشعب التركي ضد المهاجرين، وحمّلوهم المسؤولية عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات والعقارات، والزحام في وسائل المواصلات إلخ، ولفتوا أنظارهم إلى بعض مظاهر البذخ والسلوكيات غير الرشيدة لهؤلاء المهاجرين، التي كانت تمر من قبل مرور الكرام، وعقب الانتخابات زاد أولئك المتطرفون اتهاما جديدا للمهاجرين بأن المجنسين منهم هم الذين رجّحوا كفة أردوغان، وأسهموا في فوزه على حساب مرشح تحالف المعارضة كليجدار أوغلو الذي تنبأت معظم استطلاعات الرأي بفوزه.
مسؤولية المهاجرين
ما سبق لا يعفي المهاجرين أنفسهم من المسؤولية عن تصاعد هذا العداء ضدهم، فهم لم يتمكنوا أو لم يريدوا الاندماج في المجتمع التركي رغم طول مدة بقائهم التي لامست السنوات العشر بل زادت على ذلك لبعضهم، وهم لم يهتموا بتعلُّم اللغة التركية ولا معرفة الثقافة والقوانين التركية، حيث يعيش أغلبهم بعقلية المهاجر المؤقت الذي يعد الأيام للعودة إلى وطنه، وبالتالي فهو ليس بحاجة لتعلُّم لغة أخرى خاصة من كبار السن الذين يجدون صعوبات في التعلم على خلاف الشباب والأطفال الذين يكتسبون اللغة بشكل أسهل وأسرع، كما أن الكثير من المهاجرين يصرون على فرض ثقافاتهم على المجتمع التركي مثل تدخين الأرجيلة في الشوارع والحدائق العامة، وارتداء ملابس (رجالية ونسائية) غريبة بالنسبة للمجتمع التركي، ورفع الصوت في المواصلات والمساجد، والإصرار على ممارسة الشعائر الدينية وفقا لمذاهب مختلفة مع المذهب الحنفي الذي هو المذهب الرسمي للأتراك.
يبدو أن صيغة “المهاجرين والأنصار” التي حكمت العلاقة مع اللاجئين خصوصا من دول الربيع العربي وغيرها من المناطق المضطربة تمر بمرحلة اختبار، أو لنقل إعادة نظر، في ظل تصاعد المشاعر القومية، وفي ظل تصاعد أزمات الأسعار، وهو ما يفرض على اللاجئين أنفسهم الحذر، وتجنب الاحتكاك، وتفويت الفرص على المتربصين بهم حتى يكتب الله لهم عودة آمنة إلى بلدانهم.