مازالت الأم “العازبة” تعاني الأمرين، بل لازال يلاحقها الوصم والتمييز أينما راحت. ففي المغرب هناك فئة تصنف المرأة العازبة في الخانة السوداء وتصفها “بالزانية “او “الساحقة”.
هي ألقاب كثيرة توجه لها، في حين ينعم الرجل الجاني المتسبب في خلق هذه المشكلة الإجتماعية الكبيرة، بالراحة، ويُعفى أمام المجتمع والقانون من كل المسؤوليات المترتبة على تصرفاته ونتائجها، ويترك المرأة وحيدة وتائهة لتواجه الصعاب والمأساة، وتحارب جاهدة نظرة المجتمع.
فأصابع الاتهام توجه كلها صوب الام العازبة، على أساس أنها هي من ارتكب فعل شنيع ينافي الدين والمجتمع. ففكرة الانجاب خارج إطار الزواج مرفوضة بتاتا في المجتمع المغربي المحافظ بل حتى القانون لا ينصف المرأة العازبة.
فاطمة أم عازبة من مدينة تافراوت، لم يتجاوز عمرها الثاني والعشرين عاما، سردت لنا قصتها بحرقة، تحكي الشابة التي عملت كخادمة بيوت أنها اضطرت أن تغادر مقاعد الدراسة وهي في الحادي عشر من عمرها لأنها كانت يتيمة الابوين وأختها ترفض أن تشتري لها مستلزمات الدراسة فاضطرت أن تشتغل في البيوت.
بدأت رحلتها بطنجة، اشتغلت هناك لمدة خمس سنوات، تقول ” مشغلتي كانت لطيفة جدا بل كانت تعتبرني مثل ابنتها، لم ينقصني معها شيء أبدا. كانت ترسل لها أجرتي بشكل شهري لأختي الكبرى كي تجمع لي المال، لكنني بعد خمس سنوات أفاجئ أن أختي هدرت كل ما تعبت لجنيه”
سردت المتحدثة وقائع من الألم والمأساة التي تعرضت لها من طرف أختها وتابعت ” بعد عودتي من طنجة ذهبت مباشرة لطانطان جنوب المغرب، اشتغلت عند سيدة لسنوات قبل أن تأتي ابنتها وتأخذني لأشتغل عندها بفاس وهناك بدأت مشكلتي ”
” اغتصبني شاب من عائلة مشغلتي ولم أكن حينها أعلم ماذا أفعل ولا لمن أشكو حالي، قررت الصمت والتكتم عما حدث الا أن دورتي الشهرية تأخرت لأزيد من ثلاثة أشهر فقررت حينها أن أذهب للطبيب لأعرف السبب الا أنني أتفجأ بحملي، بعدها أخبرت مشغلتي بكل شيء الا انها دافعت عن الشاب وتنكرت لي”.
” أصبت بالإحباط خصوصا أنها لطالما قالت لي انت بمثابة ابنتي وصدقت كل ما كانت تقوله، الا أنهم بعد اكتشاف حملي أصبحوا ينظرون الي نظرة احتقار، أما الشاب فقد نفى قطعيا أنه اغتصبني وتملص من المسؤولية وتخلى عني، ستكمل ابنتي عامها الثاني والى الان يرفض ان يعترف بها “.
جئت لأكادير لأنني لا أعرف أحد هنا، كي أتفاد نظرة المجتمع، وجدت عمل في مصنع وهناك أرشدتني امرأة الى هذه الجمعية التي احتضنتني والتي يعود لها الفضل لما أنا فيه اليوم”.
الأم العازبة بين نظرة المجتمع والقانون
يقول عبد الرحيم عنبي أستاذ باحث في علم الاجتماع” ينبغي أن ننظر الى الام العازبة كمفهوم جديد في المجتمع المغربي وحتى في العالم العربي والإسلامي”.
“كما نعلم وضعية هذه الفئة من الناحية الدينية وكذلك من الناحية القانونية خارجة عن المألوف وعن القانون ويعتبر الابن لقيط وابن زنا، لكن الجديد الذي تعرفه هذه الفئة داخل المجتمع المغربي هو أن الاب البيولوجي معلوم لنسبة كبيرة من الحالات “.
“وإذا أردنا أن نقارن من الناحية الفقهية فان الفقهاء يعتبرون ان كل ابن خارج مؤسسة الزواج هو لقيط، لأنه يعتبر ابن زنا ولكن الجديد في المجتمع المغربي والذي يجب على الفقهاء أن يكونوا على دراية به أن جزء كبير من الحالات تزوجوا زواج الفاتحة، اذن فالأب البيولوجي معلوم والابن ليس لقيط”.
وأضاف” وهذا هو الاشكال المطروح من الناحية القانونية، لان القانونين يعتبرون أن المسألة خارجة إطار الزواج وبالتالي فهو لقيط وان هذه الام مذنبة”.
يتابع “ولكن مدونة الاسرة سارت في هذا الاتجاه، بالأصل هي مبادرة ملكية من أجل أن يحظى هذا الابن باعتراف المجتمع واعتراف الاسرة وإذا أردنا أن نجد للأم العازبة مكان داخل المجتمع ينبغي ألا ننظر اليها كظاهرة اجتماعية، لان الامر كان فيه تواعد بالزواج: اما خطوبة، اما قراءة الفاتحة “.
“إضافة أن المجتمع المغربي هو مجتمع يعطي أهمية للدين، لهذا علينا أن ننظر الى هذه الفئة كنواة أسرية جديدة، لان الاسرة ليس تابته ونحن الان لدينا تنوع في البنيات الاسرية في المجتمع المغربي”.
وحمل الأستاذ عنبي ‘المجتمع’ مسؤولية ما تتعرض له الام العازبة من وصم وعنف بحيث يقول ” المجتمع المغربي فيه تناقضات كبيرة وهذه التناقضات تظهر في كونه من جهة يشجع ويبارك الممارسات كالخطوبة وفي الوقت نفسه يوجهون أصابع الاتهام لهذه الفئة، سواء الام أو الابناء المترتبة عن هذه العلاقات، وهذا التناقض أسير للثقافة التي تخدش من مكانة المرأة، لأننا نحاسب الام العازبة، نحاسب ما ترتب عن هذا السلوك من أبناء، ولكن أين هو الاب البيولوجي؟ لا أحد يحاسبه ولا أحد يلومه وبالتالي هنا تظهر الثقافة الذكورية”.
كما عبر بقناعة عن أهمية الاهتمام بهده الفئة في المجتمع المغربي من خلال التوعية “سواء من الناحية القانونية او الاجتماعية نحن مطالبون بنوع من التوعية. توعية المجتمع من أجل ان يغير مواقفه من هذه الفئة لأن الامر كما قلت سابقا يتعلق ببنية أسرية جديدة. فالأب البيولوجي معلوم والابن ليس لقيط، لهذا يجب العمل على تغير نظرة ومواقف المجتمع “.
وفي هذا السياق، أوضحت رئيسة جمعية “أم البنين” جميلة أيت بلال أن المجتمع المدني قطع أشواطا كبيرة في ما يخص الام العازبة “أؤكد دائما أننا حققنا مكتسبات رائعة لا يمكن أن ننكر ما وصلنا اليه بترافعنا ومجهوداتنا في حق الأم العازبة، ولا يلزمنا سوى المزيد من النضال سوآءا ان كانت ام عازبة أو غيرها”.
” ففي نظري لا يمكننا أن نستثني هذه المرأة من باقي النساء، فالنساء بصفة عامة لديهن نفس الحقوق ونفس الواجبات الا مع وجود بعض الاستثناءات، كذلك نظرة المجتمع لها يمكن أن تتغير وبالطبع لا يمكن للمرأة العازبة وحدها تغيير ذلك، فعلى المؤسسات المعنية بالأمر أن تدخل الخط لأنه يلزمها تكوين، تعليم وبالخصوص السند.”
تواصل” سند قوي يتكفل بها ويساندها خلال رحلتها الشاقة لتتغلب على كل الظروف الصعبة التي تمر منها كي لا تراودها فكرة التخلي عن ابنها”.
“فحين تجد الام العازبة من يساندها ستسترجع نسبيا ثقتها بنفسها، ومع الوقت تندمج مجددا في المجتمع وتبدأ العمل وتكون مستقلة، وبعد أن تجتمع مع أسرتها بعد الصلح تحس بعدها أنها انسانة عادية وليست عبئا على المجتمع حينها فقط تكون قوية وتذوب في المجتمع”.
تقول “ما يحز في نفسي هو الإقرار بالنسب، فهناك بعض الإباء يرفضون الاعتراف بأبنائهم، على سبيل المثال رجل أرمل أقام علاقة مع امرأة بعد وفاة زوجته، ما ترتب عنه حمل المرأة. الا أنه يرفض قطعيا الاعتراف بابنه لأنه يقول إنها علاقة خارجة إطار الزواج. هذا الامر يحز في نفسي كثيرا لان الابن لا ذنب له من كل ما حدث”.
كما نوهت جميلة أيت بلال بالمساعدة الجبارة التي يتلقونها كجمعيات من طرف السلطات” الحمد لله، السلطات تساعدنا كثيرا. صحيح أنه لا نزال نواجه بعض الصعوبات فيما يخص المسألة القانونية، كمسألة تزويج حالات داخل السجن الا أن السلطات تساندنا كثيرا رغم أن الامر يتطلب نفس طويل خصوصا فيما يتعلق بالمسطرة القانونية”.
وأكدت “ان كانت الأم ناجحة وقوية ومسؤولة كغيرها من النساء ومتمكنة من أشياء كثيرة في الحياة حينها سيكون لدينا طفل ناجح وستكون نفسيته سليمة. فالنفسية السليمة مهما جدا”
تضيف متأسفة ” يحزنني أن أرى أطفال يتوقون لرؤية أباءهم، أحيانا يوقفوني أحدهم ويقول:” خالتي، أنا أيضا لدي أب”. فكلمة “أب” لديها قدسية كبية بالنسبة للطفل، تبقى مكانته كبيرة جدا، فكيف يستطيع هذا الاب الغير المسؤول أن يترك طفله ويتنكر له؟”
ومن جهته أكد المحامي الحسين بكار السباعي، محام بهيئة المحامين بأكادير والعيون” أن ظاهرة الأم العازبة تعتبر مشكلة اجتماعية معقدة ومتشابكة، لأنها ترتبط بعدة مجالات اجتماعية وثقافية وقانونية ودينية وجنسية، وتشكل هزة كبيرة داخل مجتمع محافظ، كما أن هذه الظاهرة نشأت بسبب التطورات والتحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بالبلاد”.
يضيف: “ولعل من بين أهم أسباب ظاهرة الأم العازبة، التفكك الأسري، والتنشئة الاجتماعية، وضمور الوازع الديني، والانفتاح على العالم عن طريق الإعلام ووسائل الاتصال، والتحولات على مستوى منظومة القيم، وأسباب سوسيو اقتصادية وثقافية..
ويؤكد “إن ظاهرة الأم العازبة من الظواهر المجتمعية الجديدة التي تحتاج إلى رؤية شرعية متوازنة قائمة على أساس الاجتهاد المنضبط بمقاصد الشريعة الإسلامية السمحة واستحضار الطرح الحقوقي أيضا الذي ما فتئ المغرب و أن تبناه”.
يضيف: “إذ أن الأحكام الشرعية والحقوقية أحاطت الجنين، كيفما كان مصدره، بالعناية اللازمة، بما فيها الإحسان إلى المرأة وعدم إيذائها في صحتها النفسية أو الجسدية، كل ذلك رفعا للضرر عن الجنين ولو في أولى مراحل تكونه، حتى ولو كان الضرر محتملا غير متيقن”.
وعند سؤالنا عن ما اذا كان القانون المغربي ينصف المرأة، صرح” يمكن القول على أن التشريع المغربي سكت سكوتا غير مفهوما عن الظاهرة، هذا السكوت الذي قد يكون مرده ان الاعتراف بالأم العازبة هو اعتراف ضمني بشرعنة العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، الأمر الذي يتنافى و المرجعية الدينية التي على أساسها تقوم مدونة الأسرة، لكن كمهتمين و حقوقيين نعتقد أن الظاهرة أصبحت متفشية بشكل كبير الأمر الذي يستوجب ضرورة تبني الظاهرة كمشروع السياسة العمومية ووجوبية ولوجهيتها للأجندة الحكومية ، خصوصا أن المغرب ما فتئ و أن واكب كل التطورات الحقوقية التي تشهدها الساحة الدولية ، إذ أن من بين حقوق الجيل الرابع حق التصرف في الجسد ، فعدم الاعتراف بالظاهرة يجعل المجتمع الخاسر الأكبر في الأول و الأخير هو المجتمع.”
يضيف” فكما نعلم فالقانون المغربي شأنه شأن المجتمع المغربي لا ينصف الأم العازبة ولا مولودها، إذ تواجهه مجموعة من الصعوبات القانونية المتجذرة، رغم مدونة الأسرة المغربية تتميز بتعددية المرجعيات، والموازنة بين المرجعية الاسلامية والحقوقية، ومن بين هذه التحديات مسألة لحوق النسب إذ أن الأخير لحمة شرعية بين الأب وولده تنتقل من السلف إلى الخلف، ولا يمكن لهذه اللحمة أن تكون خارج مؤسسة الزواج.”
وهذا ما يظهر بجلاء من خلال منطوق المادة 148, من مدونة الأسرة التي جاء في معرضها أنه لا يترتب على البنوة غير الشرعية أي أثر من آثار البنوة الشرعية، على خلاف المادة 146, التي تعتبر فيها البنوة للأم سواء كانت شرعية أو غير شرعية، مما يبين إجحافا في حق الأم ومولودها، على عكس الرجل الذي منحه المشرع مكنة التنصل من مسؤوليته ولو كان معتد أو مغتصب … ما لم يقر به. فالقاعدة الشرعية المؤطرة والتي استمد منها المشرع النصوص المؤطرة نجد منها: القاعدة الفقهية، القائلة، أن الحد والنسب لا يجتمعان…”.
وتبقى الام العازبة على غير النساء تتعرض للتميز والعنصرية وتوصف بالفاسدة لأنها حملت خارج اطار الزواج بل حتى أن أبنها لا ينجو من نظرة المجتمع ويطلق عليه سيل من الشتائم تبدأ بابن الحرام وابن زنى الى غيرها من الاوصاف، فتصارع المرأة وابنها نظرة المجتمع ويغيب الجزء الأساسي من الصراع… الاب الذي اكتفى بنشوة واستمتاعه بلحظة نشر من خلالها حيواناته المنوية ثم تملص من المسؤولية واكتفى بالاختفاء والهروب.