بعد تجربته الشذرية في “الصحو مثير للضجر”، أصدر الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس كتابه الموسوم ب”حبل قصير للمشنقة”، الذي يتميز بكتابة شعرية زئبقية مكثفة، كتابة متشظية تطارد ظلال المعنى، تبتهج بالمتواري خلف المعاني العامة، ترسم خرائط الصمت بابتهال كبير، ولا تطمئن لوثوقية الجاهز المطروح للتداول في الشارع العام، ما يحرك الكتابة لدى كوكاس كما يعلن في شذراته هو الألم، جرح الوجود، لعبة الحياة والموت، متاهات الحب وجنونه.. يرسم كوكاس في حبل “قصير للمشنقة” مسارا تأمليا وفلسفيا إن صح القول في قضايا أرّقت البشرية لكن بالكثير من اللعب، الذي هو المفتاح لفهم هذه التجربة الشذرية المثيرة التي تقع على الحدود بين الشعر والنثر.
يقول الناقد المغربي محمد شداد الحراق عن الكتابة الشذرية في “حبل قصير للمشنقة”: “عوّدنا الأستاذ كوكاس في كتاباته أن يأسر قارئه ويلقي به في دهاليز الإثارة وفي سراديب المتعة، فلا يخرج منها إلا وقد امتلأ أسئلة ولذة ورغبة في العودة من جديد لاقتناص المزيد. حينما تقرأ كتابات الأستاذ كوكاس تجرفك سيول الفضول نحوها بقوة، وتدعوك هواجس البحث والكشف والوصف لامتطاء صهوة القراءة العميقة التي تتسلل عبر الفجوات، وتكسر نظام التراكيب النحوية البسيطة والقوانين اللغوية الموروثة، وتعْبُر نحو ضفة المسكوت عنه الذي ظل متواريا تحت ظلال الكلمات المخطوطة وفي ثنايا العبارات المرصوفة. أدب كوكاس يحتاج ذاك القارئ العميق أيضا الذي لا يكتفي بالسطح، ولا يقنع دون التقاط الأسرار المنتقبة خلف جدار الاستعارات وفي كواليس الانزياحات، ولا يمل من قطف أزهار الأفكار الثائرة المتمنعة التي تأبى الخضوع بسهولة في يد من يلمسها بحنو.. كتاباته لوحات فنية جريئة تمتلك سلطة خارقة لجمع كل القطع الممكنة وتوظيفها ببراعة الفنان المقتدر الأنيق لصناعة جمال الكلمة وتحقيق سحر التعبير لحظة الإبداع وخلق المتعة الفنية ولذة القراءة لحظة التلقي”.
الكتابة الشذرية مثل قطع صغيرة من ذهب لها فرادتها وتفردها عن الكتابة المعهودة في التواصل العادي أو في الكتابات النسقية المألوفة، هي قطع صغيرة كرؤوس النمل من ذهب الروح، لآلئ وجواهر خالصة ترصع البياض بنشوة الفرح، لخفتها وسرعتها تسخر بمرح من العابر واليومي، تتفرق شذر مدر على بياض الصفحة راسمة مفازات التيه لمن يولع بجمع نثار الدرر بدل ما تساقط من كلام.. لأن الكلام جماعي والشذرة فردية موجهة لانتهاك حرمة المقول والمتماسك وتفكيك اليقينيات.. لا شذرة تكتب في حضرة الوعي أو بتأمل العلاقات بين الأشياء في حدود تمظهرها الخادع، في الشذرة ننطلق مما حولنا، لكن شيئا خفيا وعميقا فينا هو الذي يحدد العلاقات الملتبسة بين الأشياء بوضوح جلي في لمحة بصر، ثم يذوب في الغموض.. يصبح الصوت مجلوة، حيث ننجذب لغواية المكتوب لا للكلام المقول، ويتحول الحرف إلى قوس قزح متعدد الدلالات وحمال أوجه لأنه مشتت المعاني.. فيه تسقط الذاكرة ويمحي مخزونها، لأن الشذرة وليدة الذات الإنسانية العميقة فينا… فلا شذرة بلا تأمل عاصف وحرقة في القلب”.
بهاء الحقيقة
مهيب وجه الحقيقة حين يتجلى سافرا،
له رعب الأشباح، فتنة الفتاة البكر، عواء الذئاب الجائعة وهي تهتك صمت الظلمة.
مخيف وجه الحقيقة بلا حجب أو أقنعة
كشمس ساطعة تتجلى.. من أين لك إدامة النظر فيها؟
مثل الموت تأتي الحقائق مجتمعة، تُشعل الحرائق في أكوام قش الأكاذيب!
وفي شذرة “بهجة الألم” نقرأ:
للألم شهية مرحة بلا حدود..
نار لا يشبع نهَمُ جوعها كل عطب المصائب البشرية
للألم فرح نرجسي.. أحزاننا هي الولائم التي تجتمع عليها جيوشه رقصا وطربا.
للألم سادية لا تضاهى.. دراما حزينة
ذلك العزاء للإلاه الشاب دوموزي وعذاباته اللا توصف.
لكن لا معنى للحياة بلا ألم، إنه الذنب المستحق لكل ما هو جميل.
تلك حكمة هيروقليطس الجليلة: “الحياة في الموت، والموت في الحياة”.