“وأنا صغير كنت أنظر لأقدام الناس…اليوم الناس ينظرون الى قدمي” كانت هاته العبارة الشهيرة لأسطورة كرة القدم البرازيلية والعالمية بيليه الملقب ب”الملك”،والذي ودع العالم مساء الخميس الفارط الثاني والعشرين من دجنبر 2022 ، عن عمر ناهز الثانية والثمانين عاما، بعد صراع طويل مع سرطان القولون بمستشفى أنشتاين بمدينة ساو باولو البرازيلية، والذي أصدر بيانا عن الوفاة قال فيه أن بيليه توفي بسبب فشل أعضاء متعددة نتيجة تطور سرطان القولون.
وأشارت تقارير صحفية برازيلية أنه من المقرر أن تنطلق جنازة “بيليه” في ملعب أوربانو كالديرا المعروف باسم “فيلا بيلميرو” معقل فريق سانتوس من الساعة العاشرة صباح غد الإثنين وحتى الموعد نفسه من اليوم التالي الثلاثاء، حيث سيتواجد التابوت الذي سيحمل جثمان بيليه في منتصف الملعب ليتمكن الجمهور من الحضور وإلقاء النظرة الأخيرة عليه عبر بوابات مخصصة تم الإعلان عنها من قبل السلطات هناك،ثم ستشهد جنازة بيليه في نعش ذهبي نقشت عليه صورة بيليه حاملا كأس العالم مسيرة في شوارع سانتوس، مرورا بمنزل والدته التي تبلغ من العمر 100 عام ولا تعلم عن وفاته إبنها، قبل أن تبدأ مراسم الدفن .
ولد “إدسون أرانتيس دو ناسيمنتو” الطفل البكر لعائلة مسيحية كاثوليكية، في الثالث والعشرين من أكتوبر 1940 بولاية ميناس جيراس في بلدة تريس كاراكوس بالبرازيل، و سماه والده إدسون تيمنا بمخترع الكهرباء توماس إديسون، لأن الحي الذي كان يسكن فيه عرف الإضاءة قبل ولادته بأيام.
قال عن نشأته “ولدت فقيرا في منزل صغير بني من أحجار القرميد، لم يكن منزلا متينا، وكان يمكن أن ينهار في أي لحظة، وحالته البائسة كانت بادية للعيان” – فيما بعد سمي الشارع الموجود فيه هذا المنزل باسم “بيليه”- ومن شدة فقر أسرته، كان “بيليه” يمشى حافي القدمين ويلبس الثياب المستعملة، وكانت وجبة طعامهم أحيانا قطعة من الخبز مع قليل من الموز، لذلك قرر باعتباره أكبر شقيقيه الإثنين أن يعمل ماسحا للأحذية لكي يعين والده على مصاريف أسرته.
وقال “بيليه” عن تلك المرحلة التي عاشها “أظن أن عمري كان سبع سنوات عندما جمعت، بمساعدة عمي جورج، المال الكافي لشراء العدة المطلوبة لمسح الأحذية، لم أحصل على المال في البداية، فنصف شارعنا كانوا حفاة، ولذلك كان لدي زبون واحد لم أعرف ما الأجر الذي ينبغي أن أطلبه منه”، ثم بدأ يرافق أباه إلى ملعب نادي “يورو أتليتيك” أيام المباريات، وهناك وجد ما يكفي من أحذية المشجعين لمسحها، ثم إنتقل إلى محطات القطار وأصبح يدر دخلا لا بأس به.
وصف بيليه نفسه بأنه لم يكن تلميذا متميزا “كنت أريد التعلم ولم أكن غبيا، لكننا كنا، أنا والمدرسة، عالمين متنافرين” وكثيرا ما عوقب بالسجود على حبات من الفاصولياء الجافة التي تشبه الحصى أو أن يقف فترة طويلة في زاوية قاعة الدرس ووجهه على الجدار ويداه ممدودتان لأنه كان تلميذا مشاغبا و يهرب من المدرسة من أجل السباحة بثياب المدرسة مع أصدقائه في النهر المحاذي لسكة القطار ثم ينشرونها على أغصان الأشجار الى أن تجف.
رغم نحافة جسم “بيليه”، والذي كان مدعاة لسخرية زملائه، إلا أنه كان متأثرا بوالده لاعب نادي فلومينينزي البرازيلي “دوندينيو” لأنه من علمه مبادئ اللعبة وحببها إلى نفسه، وكثيرا ما ردد على مسامع زملائه “ذات يوم سوف أصبح قويا مثل والدي” فلعب في شوارع الحي حافيا، وكان هو وأصدقاؤه يصنعون كرتهم من الجوارب والأسمال ويخيطونها وبها يلعبون. وكانت الكرة تكبر كلما وقع في يدهم جورب أو ثوب جديد غالبا ما يسرقونه من حبال نشر الغسيل في الحي.
ولأنه كان يخطئ في نطق اسم لاعبه المفضل حارس المرمى الذي كان يلعب في فاسكو دي غاما “بيلي” فإن زملاءه في المدرسة أطلقوا عليه اسم “بيليه”، ورغم كرهه هذا اللقب في بداية الأمر، إلا أنه ما لبث أن إشتهر به في مباريات الصالات والشوارع، ثم أصبح اللقب الذي يعرف به في ملاعب كرة القدم العالمية.
كان أول مبلغ مالي حصل عليه من الكرة، عندما سجل هدف الفوز في مباراة بين فرق الأحياء، حيث ألقى عليه المشجعون بعض النقود والعملات المعدنية، وعندما جمعها وضعها في يد والدته كي ترضى عنه وتتركه يلعب كرة القدم، إذ لم تكن ترغب بأن يصبح لاعبا مثل والده، بل كانت تطمح بأن يصبح طبيبا.
وفي سن الـحادية عشر، حصل “بيليه” على أول حذاء رياضي له، بعد أن كان من بين الذين إختارهم اللاعب السابق ومكتشف المواهب”فالديمير دي بريتو” وضمه إلى نادي “أتليتيكو باورو” للناشئين، حيث شارك مع أول فريق له بالعديد من البطولات المحلية، وفاز معه بكأس الناشئين ولقب هدّاف البطولة( سجل أكثر من 100 هدف في 33 مباراة)، وكان هذا النجاح خطوته نحو نادي “سانتوس” بمساعدة “دي بريتو” الذي قال حينها “أنتم أمام أفضل لاعب في العالم”.
قال مؤرخ النادي “جييرمي جوارشي” آنذاك “وصل فتى نحيل من بوارو عام 1956، لا أصدق أن بيليه الصغير تمكن من التدرب مع الفريق الأول فورا. كان أولئك اللاعبون أبطالا عام 1955، وفي قمة ترتيب بطولة الولاية. وكان بيليه يراوغ الجميع، والكل يتساءل عن هويته”.
بدأ “بيليه” رحلته الدولية مع منتخب البرازيل الشهير باسم “السيليساو” وعمره لا يتجاوز 16 عاما و9 شهور. وفي 7 يوليو 1957، شارك في أول مباراة له أمام الأرجنتين، وسجل خلالها أول أهدافه الدولية، وحصد أول إنجاز له عام 1958 وهو بعمر الـ 17 سنة و249 يوما، عندما فاز بكأس العالم المقامة بالسويد، وحقق بذلك وعدا قطعه على نفسه وهو إبن العاشرة، عندما رأى دموع والده حين خسرت البرازيل أول كأس عالمي نظّم على أرضها عام 1950، فقال لوالده “لا تبك يا أبي، يوما ما سأفوز بكأس العالم من أجلك”، آنذاك حقق بيليه إنجازا غير مسبوق بصنع 3 أهداف في المباراة النهائية ومن شدة فرحه سقط مغشيا عليه بعد المباراة. وتكرر الإنجاز في تشيلي عام 1962 و مونديال المكسيك عام 1970. وصرح “بيليه” في فيلم وثائقي “عندما إتجهت إلى كأس العالم 1958 إعتقد الناس أنها ستكون تجربة يصعب عليّ تحملها، وأنها مسؤولية أكبر من اللازم، إلا أن الأمر لم يكن على هذا الشكل، لم أشعر بالقلق، وأول هدف سجلته في شباك ويلز كان الهدف الذي فتح الباب لمسيرتي”.
لم تكن لمسألة الأرقام أي أهمية،حتى ظهر اليافع “بيليه” وهو يرتدي الرقم 10 في المونديال الذي أقيم بالسويد عام 1958، و سحر العالم بنجوميته وأهدافه وطريقته في التعامل مع الكرة،و الذي إرتداه عن طريق الصدفة فقط؛ وذلك عندما أرسل الاتحاد البرازيلي لكرة القدم قائمة لاعبيه المعتمدين في البطولة، لكنه نسي تخصيص رقم لكل منهم، وهنا حل مندوب الأوروغواي لدى الفيفا “لورنزو فيليزيو” المعضلة بتوزيع الأرقام عشوائياً بنفسه ومنح الرقم 10 للاعب غير معروف آنذاك “بيليه” وكان هذا الإختيار تاريخيا لأن الشاب البرازيلي تألق بشكل لافت في المونديال وسجل ستة أهداف وقاد بلاده لأول لقب لها في كأس العالم، ليصبح الرقم 10 مخصصاً من بعده للاعبين الأذكياء والنجوم الموهوبين.
إشتهر “بيليه” كمهاجم وصانع ألعاب موهوب، وتميز بلياقته البدنية العالية وبمراوغاته وتمريراته المتقنة وسرعته الفائقة وبديهته العالية، كما عرف بإتقانه لعب الكرات الخلفية والرأسيات والتسديد البعيد بالقدمين بدقة متساوية المعروفة ب”ضربات المقص” و”الضربات المزدوجة”.وكان غالبا ما يمتنع عن تنفيذ ركلات الجزاء التي كان يعتقد أنها طريقة جبانة لتسجيل الأهداف، كما كان يجيد صناعة اللعب وقراءة وتوقع تحركات زملائه.
وخلال 18 عاما لعبها مهاجما مع النادي، بلغ مجموع أهدافه 643 هدفا في 656 مباراة، كما كان لاعبا بديلا لمنصب حارس مرمى، وإرتدى القفازات أربع مرات خلال مسيرته مع النادي، ولم يستقبل أي هدف في مرماه، وحقق 11 بطولة إقليمية، والدوري المحلي 5 مرات، كما فاز مرتين ببطولة كوبا ليبرتادوريس، ومرتين بكأس إنتركونتننتال، ومرتين بمونديال الأندية، فأصبح خلال هاته الفترة “الأعظم” في العالم، وحقق الكرة الذهبية 7 مرات، ولقب هداف الدوري البرازيلي 3 مرات، وهداف الليبرتادوريس مرتين.
بعد نجاح “بيليه” الباهر مع فريقه سانتوس، أبدت عدة أندية عالمية إهتمامها به و الرغبة في ضمه إلى صفوفها. وعرض آنذاك عام 1960، إنتر ميلان الإيطالي 40 مليون كروزيرو برازيلي مقابل التعاقد معه، إلا أن رئيس البلاد وقتها “جانيو كورداس” إعتبر “بيليه” “كنزا وطنيا لا يمكن تصديره” وصادق على قراره البرلمان عام 1961، فصدر قرار أمني بمنعه من الرحيل عن فريقه “سانتوس”، الى أن أقنع وزير الخارجية الأميركي السابق “هنري كيسنجر” الحكومة البرازيلية بالتخلي عن “بيليه” لفائدة نادي “كوزموس” مقابل 6 ملايين دولار، وهو رقم لم يحصل عليه حتى الرئيس الأميركي “جيرالد فورد” الذي كان راتبه حينها 200 ألف دولار. وكانت الولايات المتحدة في تلك الفترة قد قررت لأول مرة إنشاء دوري كرة قدم محترف.
كان “بيليه” في الـخامسة والثلاثين من عمره عندما حل بنيويورك في 28 يونيو 1975. وقال وقتها “يمكن إذاعة الخبر للعالم كله الآن أن كرة القدم وصلت للولايات المتحدة”، وحقق “بيليه” في ثلاث مواسم رفقة نادي “كوزموس” 64 هدفا في 107 مباريات، وفي مباراته الأخيرة نهاية مسيرته رفع كأس البطولة أمام 37 ألف متفرج في ملعب بورتلاند جاؤوا لوداعه، وحُمل على الأكتاف وأصبح “الملك” بالولايات المتحدة، و تحول من لاعب كرة قدم إلى علامة تجارية.
أعلن “بيليه” إعتزاله كرة القدم دوليا عند وصوله الـسابعة والثلاثين من عمره. وفي فاتح أكتوبر 1977 بملعب “جيانتس”، وأمام 76 ألف مشجع، كان وداع صاحب الألف هدف في مباراة ودية، لعبها الفريق الأميركي ضد نادي “بيليه” القديم “سانتوس” حيث لعب شوطا مع كل فريق. وقال بيليه وقتها “عشت هنا أفضل اللحظات وأكثرها حماسة في حياتي، وأشعر بالأسف الشديد لأنني سأتوقف عن فعل أكثر ما أحب في الحياة وهو لعب كرة القدم”، وفي نهاية المباراة، وضع أسطورة كرة القدم البرازيلية على رأسه تاجا من الذهب الخالص، وطاف به أرجاء الملعب حاملا في يده قميصه رقم 10 وهو يمسح الدموع من عينيه، وذلك بعد أن أصبح الهدّاف التاريخي للبرازيل برصيد 77 هدفا في 92 مباراة، وخلال الشوط الثاني بدأت تمطر، مما دفع صحيفة برازيلية إلى إصدار العنوان الرئيسي في اليوم التالي: «حتى السماء كانت تبكي».
خلع “بيليه” آخر قميص ارتداه منتصف الملعب ورماه في الهواء، وسقط بين يدي “جيمي ماكستلر” لاعب “سياتل ساندرز” الذي احتفظ به دون غسله، ووضعه في صندوق ودائع ببنك “سياتل”. وكان قد تلقى عرضا بـ 100 ألف دولار قبل سنوات ورفض بيعه، وقال “من الصعب أن أبيع قطعة من التاريخ، قيمته للرياضة أعلى من أموال بيعه.. أشعر أنه نوع من التدنيس أن أبيع شيئا بهذه الأهمية”.
منذ إعتزاله، أصبح “بيليه” سفيرا لكرة القدم في العالم، وحصل على منصب الرئيس الفخري لنادي “كوزموس” الأميركي، وعين عام 1995 في منصب وزير الرياضة في البرازيل، وسفيرا للنوايا الحسنة من قبل منظمة اليونسكو. كما كان مستشار للاتحاد البرازيلي لكرة القدم، ومتعاونا مع الأمم المتحدة، وسفيرا لمونديال عام 2014.
ينسب الكثير من النقاد الفضل لبيليه في الشعبية الجارفة التي تتمتع بها كرة القدم، ويعود له الفضل في إطلاق لقب “اللعبة الجميلة” على كرة القدم، ولقب “الفريق الجميل” على المنتخب البرازيلي، ولا يمكن حصر الألقاب والجوائز التي نالها “الجوهرة السوداء”، فقد أختير لاعب القرن وذلك في كتاب صدر عام 1984 بمناسبة مرور 80 عاما على إنشاء الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، كما ينسب لبيليه الفضل في منح الرقم 10، الذي كان يرتديه، الأهمية التي بات عليها لاحقاً.ويعرف يوم 19 نونبر بإسم “يوم بيليه” للإحتفال في ناديه سانتوس بالذكرى السنوية لهدفه الألف، كما اختير من قبل اللجنة الأولمبية الدولية في عام 1999 كأحد أفضل رياضيي القرن العشرين بجانب محمد علي كلاي وغيره، وتم إدراجه في قائمة التايمز لأهم 100 شخصية في القرن العشرين، وفي عام 2000، تم التصويت على بيليه كأفضل لاعب في العالم من قبل الاتحاد الدولي لتاريخ وإحصاء كرة القدم (IFFHS)، وكان أحد الفائزين المشتركين بجائزة لاعب القرن من فيفا، و تم الاعتراف بـ1،279 هدفًا في 1363 مباراة لعبها، بما في ذلك المباريات الودية، كأرقام قياسية في موسوعة غينيس.
نال بيليه ألقابا كثيرة لكثرة إنجازاته الكروية، فأطلقوا عليه لقب “الجوهرة السوداء، الملك، ملك الكرة” ولقب في مكان نشأته بـ “ديكو” والتي تعني المحارب، كما حصل بيليه طوال مسيرته المهنية وبعد اعتزاله على العديد من الجوائز الفردية والجماعية لأدائه في هذا المجال وإنجازاته القياسية وإرثه في الرياضة.
بعد وفاة الأسطورة “بيليه” أعلن الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، الحداد وطني لمدة 3 أيام، وقال في تغريدة له عبر حسابه على “تويتر”: “نحزن لخسارة رجل نشر اسم البرازيل في العالم، من خلال كرة القدم.. لقد حول بيليه كرة القدم إلى فن وفرح”.
كما نعاه رؤساء دول وسياسيون ورياضيون ومشاهير الفن وفرق رياضية من حول العالم .