“تغراوين يا لمعايل !”…هذه العبارة تعيدني الى أوائل التسعينات حينما كنت لا أزال طفلة ذي الخمس سنوات…كنت أرى جدتي رحمة الله عليها (عيادة منت لكان) تخرج من باب بيتنا حاملة (طبگ ) فيه خليط من قطع السكر والتمر والحلوة وأحيانا أخرى كانت تكتفي بأن تعد طبقا من البلغمان وتصنع منه كويرات بكفها وتنادي بأعلى صوتها (تغراوين يالمعايل!) فيتهاتف عليها أبناء وبنات الحي من كل حدب وصوب في سباق تنافسي كله حماس و فرحة ورغبة في الحصول على قطع السكر أو التمر أو الحلوى أو البلغمان…فتبتسم جدتي وتناولهم مايزخر به الطبگ او إناء البلغمان وهي تتمتم دعوات مسترسلة !
صورة لا زالت عالقة بذهني، أحياها الفيديو المتداول مؤخرا بمواقع التواصل الاجتماعي ليعيدني الى ذكريات الأمس البعيد حاملة معها بهجة اللحظة و الحنين الى تلك الأيام…والتساؤلات تطرق ذهني لماذا اندثرت هذه العادة الجميلة ولماذا فرطنا في هذه الأمانة الثقافية التي تركها لنا الأجداد كتعبير عن الجود والكرم والتكافل ؟!
“تغراوين يالمعايل” عادة قديمة تستمد قوتها من الدين الإسلامي الحنيف كان أجدادنا يمارسونها فيما بينهم حفاظاً على جودهم وكرمهم ، عادة تعتمد على “الصدگة” أو “الصدقة” يخرجها سكان الفريك الواحد ويختصون بها الأطفال في حمولة دينية واضحة مفادها أن الصدقات تنزل اللطف عند البلاء وقد تدفعه بإذن الله تعالى. و يقصد بكلمة “تغراوين” هلموا إلى فرحتكم.. “تغراوين يالمعايل” فرحة كبرى رغم بساطة مكوناتها تقدم من أياد مجعدة الى أياد يافعة تزرع على وجوه أصحابها بسمةَ بريئة صادقةً تنسيك همومكَ للحظاتْ ..
وطقوس عادة “تغراوين يا لمعايل” تتم بعد أن تقوم جدات وأمهات الفريك الواحد ونساؤه عموما بتخصيص كميات معينة من التمر أو السكر أو الحلوى وتدور بها ثلاث مرات تحت عصام خيمتها و تنادي بصوت مسموع : “صَدْكَةْ الصَّلَاحْ يَا رَبِّ أإفَكْنَّا مِن النْواح واِخَلِّي لْمْرَاحْ ، أإزِيحْ عَنَّا أَلَما اْنْكْدُّو بيه ، إرَدْ غِيَّابْنَا وأحْبَابنا وَيَشْفِي مَرْضَانَا وَيَرْحَم مُوتَانا وإفْكْنا مِن لْبْلَى وَالْبَلِيَّة وَالدَّعْوَة لْمْحَالِيَّة واجِيرْنا مَن النَّار وَيجِير مِنْهَا وَالِدِينَا وَالْغَالِي أعْلِينا وَاللَّيّ اِسَالْنا حق” ، ثم تخرج وتقف عند باب الخيمة الغربي الساحلي وتنادي بصوت مسموع ومؤثر عاطفيا “تغرااااويييين ياااالمعايل ! تغراااااويييين يااالمعايل ! تغراااوييين ياااالمعايل ! ولا تتوقف إلى حين التأكد من وصول كل أبناء لفريك .
من منا (من هم في سني أو أكبر مني) لم يعش تجربة تغراوين الفريدة مع أمه أو جدته أو إحدى قريباته المسنات أو جاراته؟لكن للأسف اليوم وبعد أن كانت “تغراوين يالمعايل” عادة وموروثا ثقافيا نقله أجدادنا عن آبائهم ورافقهم حتى بعد التحول من الفريك الى المدن صارت حكاية تحكى فقط ..لا عاشها إخوتنا الأصغر منا ولا أطفالنا ! وكيف نحييها ونحن نعيش أزمة الثقة و بات من الصعب أكثر من أي وقتٍ مضى أن نربي أولادنا على الثقة بالآخر ونحن نعيش في عصر يسوده الإجرام والأمراض النفسية ، بل حتى الصدقة لم نعد نثق في من يقدمها ! لذلك صارَتْ “تغراوين يالمعايل” شيئا مهملاً و إندثرت كأنها لم تحدث قطّ ، فهل من سبيل الى إحيائها؟