الحمادة والبطانة ليست أرض خلاء… هي الصحراء النابضة بوجودنا والصادحة بآثار استقرارنا(1)

وادنون تيفي24 أغسطس 2022
الحمادة والبطانة ليست أرض خلاء… هي الصحراء النابضة بوجودنا والصادحة بآثار استقرارنا(1)
وادنون تيفي
بقلم : سويدي تمكليت

لحمادة ولبطانة أرض الظعن والرتعة الدائمة، المشهورة بمرابعها (لمراتع) الجيدة، وامتداداتها الغاوية، وفضاءاتها الساحرة، اللاهجة بالتاريخ في أبعاده الحضارية المتعددة، النابضة بديدن حركة وجودنا واستقرارنا، الحافظة لأمجاد أجدادنا وآبائنا، القابضة بتلابيب هويتنا الراسخة في الجغرافيا كالأوشام في ظاهر اليدين، وفي غيرها…

ولبطانة يكفيها من مفاخر النعت والوصف سمنة الدلالة وثراء معانيها، قد كانت صحراء الجذب لا الجدب، تغوي الظاعنين وقطعانهم، والمزارعين وأشباههم، والتجار بمحاور مسالك طرق التجارة بها العابرة جيئة وذهابا في الجهات الأربع، والدعاة وأهل الصلاح، والعلماء وأهل الفلاح، والزهّاد وباقي العبّاد، والمقاومين والمجاهدين ممن ارتوت كل حبات رملها وحجرها بدمائهم…

ولئن كانت لبطانة هاته لم تحظَ باهتمامات البحث والباحثين (وهذا مؤسف للغاية) وما يتعيّن أن ينجزوه من دراسات ويبرزونه من مفاخر تاريخ هذه الأرض ومقومات خصوصيتها الطبيعية والحضارية والاجتماعية والثقافية والأدبية والعلمية فلأنهم لا يستطيعون ركوب المغامرة إليها، ولا تقوى أشرعة مراكب أقلامهم النفاذ إليها، وتحمل ما يكفي من الصبر والتجلد في اختراق شعابها ومسالكها، وتلافي بعض مهالكها التي حصدت أرواحا وناثرت أجسادا…

لحمادة ولبطانة صحراء لا تقل أهمية وسحرا ومنزلة عن تيرس، فقد كانت تحبل بالنوادي الأدبية، ويكفي الناظر –هنا- أن ينظر فيما بلغنا (وقد استجمعناه) من شعر شعبي بديع تغنى بسحر مواضعها ووصف مرابعها، واستوقف وبكى أطلال ديارها وأيام الصبا والفتوة واللهو فيها، ومجَّدَ أعلامها ورجالاتها، وأشاد بمحامدهم وسخاء كرمهم، وبفروسيتهم وبطولات مقاومتهم وملاحمها الخالدة بها (ومن نماذج ذلك الشاعر المرحوم عبد الدائم حمادي ولد عبيد الله ولد حماد الإيدري وأسرته الأدبية، والشاعر المرحوم مولاي علي ولد أحمد أطويف البوجمعاوي وذويه، والشاعر المرحوم محمد ولد لعريبي الوعباني، والشاعر المرحوم محمد ولد إبراهيم ولد الحسين ولد بوگنين الگوراري، والشاعر المرحوم عبد الدائم الحسين ولد المختار الإيدري إلخ…)…

كما عجّت لحمادة ولبطانة بالمجالس العلمية والمحاظر البدوية، حيث حطت بها منازل العلماء فارتاد حياضها طلاب الفرگان والأحياء (مثل الفقيه سيدي حبيب اليعقوبي البوجمعاوي دفين آوزيلفت، والفقيه الولي الصالح سيدي عبيد الطالب البوجمعاوي بتمگلاي، ووالد القاضي سيدي ألمين (الأمين) المحجوب الرگيبي البوجمعاوي الأيتوسي وسيدي محمد الكنتي، وجد الحاج إبراهيم بن أحمد بن أگين المسيعيدي وغيرهم كثير…) وتوافد عليها ونبغ فيها الأدباء والشعراء (مثل أدباء أسرة أهل عبد الدائم وأهل أطويف وأهل أگين وأخرون…) فأنبتت غراسا علميّا وأدبيّا وشعريّا قَلَّ قرينه أو نظيره في باقي المناحي…

كما أغوت هذه المناطق روابيها ووهادها أهل الصلاح والزهد فكانت بها خلواتهم، والناظر في خريطة توزيع الصلحاء بالبطانة والحمادة يدرك ذلك بالملموس -وأنه كان في الرجال كما في النساء- ومن نماذج ذلك الولي الصالح سيدي حَيمّد بواد لثل، والولي الصالح سيدي بوخريص برحاب المغدر، والولية الصالحة لالة عائشة بآخزان إلخ… فضلا عن العديد من المزارات والأضرحة المنتشرة هنا وهناك، منها نذكر ضريح الشهيد أحْمَدات ولد أحمَيْدَة الإيدري (جد آل عبد الدائم) بمنطقة آخشاش، وضريح بريك ولد مُحَمَّدْ لَحْمَاد الإيدري أيضا دفين أكرارة الكرش، وضريح مولود ولد سالم المسيعيدي دفين ضاحية جبال الواركزيز، وضريح محمد ولد علي (لعلي) أشويعر دفين وديان أم ركبة بمنطقة أگَنْزْ في أقصى الجنوب، وضريح محمد سالم البلالي الذي له مشهد بموضع اسكيكيمة بالحمادة والمدفونة معه بها زوجته المسماة فاطمة منت اعبيد، وضريح أعلي وسعيد الوعباني (جد فرع أهل علي وسعيد بأيت وعبان) دفين موضع أظميريين بواد الساقية الحمراء أعلى منطقة الفرسية، وضريح لحسن لبكم البوجمعاوي (جد أهل سالم لبكم) دفين موضع لحطيبة بظهر الحمادة، وضريح احماد ولحسين الإيدري دفين موضع اللمتوني، وضريح ولد سويلم ولد كروم (أظنه محمد) من أهل بوجمعة ومسعود بمنطقة الترسالي، وضريح الجيدة أعويشة منت بليعيد ولد مُحمّاد واحماد من أهل بوجمعة ومسعود أيضا بواد أَفْرَاكَشْ قبرها يزار بموضع فيرني إلخ…

كما كانت تغري سهولها وسهوبها المزارعون من أهل المنطقة فدفعتهم إلى ممارسة نشاط الفلاحة (الحراثة) والزراعة البورية والمسقية، والناظر في عدد من مناحيها يرصد آثار الحقول على ضفاف الوديان الكبرى كوادي تيغزت وآخزان وآفرا وآوزيلفت فضلا عن لكراير المتعددة، ولهم بها أمر عجيب –في حاجة إلى البحث والدراسة- يتعلق بوجود منشآت تخزين (امطامير) الحصاد من حبوب وتبن وغلال تعرف محليا بـ “المرس” لعل أشهرها مرس آخزان قبالة الولية الصالحة “لالة عائشة الصالحة” كم الحال تماما لمرس “آگو” الشهير الذي يجعل المرء مندهشا من خصوصية وطبيعة هاته الثقافة وتقاليد مجتمعها البدوي الزراعية… فضلا عن وجود واحات النخيل والصفصاف وغيرها مما يكشف أن وضع المجال في عهود سابقة وحتى عهوده القريبة كان ساحرا بفضاءاته وموارده الطبيعية وغاويا للسكان بمزاولة أنشطتهم السقوية وما دليل وجود بعض الأشجار المثمرة فيها كالكروم والنخيل والصفاص والبطم وغيرها إلا شاهدا على أثر بعد عين، ومنهم مازال يتردد عليها تهذيبا وشذيبا لحيازته الهادئة والمستمرة والعلنية لها، ومن ذلك واحة أمطي وواحة بوكجوف وواحة آوزيلفت وواحة أخريبيشة وواحة أصفيصيفة إلخ… كما انتشر في هذا المجال تشييد الكثير من الآبار ونقط ماء للارتواء في عدد من المناحي تواردت عليها قطعان ماشيتهم وغيرهم كحاسي إيگطي وغياغيا في مسمس أكنز، وحاسي مَّازَگَّيْگْ بمنطقة فِيرْنِي ولبير لحلو إلخ… فضلا عن عدد من المطافي والعيون…

ــــــــــــــــــــــــــــــ(يتبع)ــــــــــــــــــــــــــــــ

ملحوظة: صور للباحث ذات مرة بموضع من مواضع لبطانة (الزر الساحلي)، وصور لضريح جد الباحث الولي الصالح الفقيه سيدي حبيب (حبوب) البوجمعاوي الأيتوسي بمنطقة آوزيليفت.

سويدي تمكليت

دكتور باحث حول المجال الصحراوي ورئيس مركز للأبحاث والدراسات

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.